لم يبقَ يوم من أيام الأسبوع العراقي خالياً من النعت بالدموي أو الأسود، حتى أمسى هناك الآحاد السُّود، وآخرها 25 أكتوبر 2009، والجُمَعُ السُّود، أولها مقتل محمد باقر الحكيم وثمانين آخرين (29 أغسطس 2003)، والسبوت السُّود ومنها كارثة كربلاء (14 إبريل 2007)... إلا أن أكثر مسيل للدماء كان يُصادف الأربعاءات وأولها 19 أغسطس 2003 تاريخ تفجير دار الأمم المتحدة، وأفظعها 31 أغسطس 2005 يوم تساقطت الأجساد من على جسر الأئمة وبلغ عدد الضحايا أكثر من 1300 عراقي، والثلاثات الداميات وآخرها 8 ديسمبر 2009. كانت أحزان الكنائس عادة في الآحاد، وأحزان المساجد والجوامع في الجُمَعُ، بينما يُختار لإبادة الطائفة الأيزيدية والمندائية حيثما ووقتما يتجمعون ليبلغ قطف الرؤوس السبعمائة ويزيد. ناهيك عما حُصد من الشبك، ومع منعة الدار هزَّ انفجار كارثي أربيل، صباح عيد الأضحى (فبراير 2004)، ونجا منه القيادي عدنان المفتي بأعجوبة، ليروي قصة مصافحته للانتحاري. لم أنظر إلى النَّظام السابق وأتباعه، من المخلصين والمجاملين، بنظرة ثأرية، فالحقد الدفين، على الرغم من الخسارات البليغة، تسرب يوم زوالهم، في صباح سميته حينها بـ"صبح الأصباح"، بعدها رغبت بإنعاش الأمل في توقف "تبادل المصائر". إلا أنني لا أشك قيد شعرة برغبة "بعث" صدام الذي أسدى لزعيمه الجديد لقب "المعتز بالله"، أن يفعل المستحيل من أجل العودة. كذلك يسعى "الإسلام الانتحاري" لركز راية دولته السوداء في قلب بغداد، بعد نقل ساريتها من موقع الإنتنريت إلى قصر الإمارة. كل هذا مفهوم لدى العراقيين، لا يأتي بجديد إذا ذَكر به، في كل خطاب، رئيس الوزراء، حتى جاءت كلمته في الأربعاء الدامي والخميس الدامي والثلاثاء الدامي... كأنها نسخة مستنسخة. وفي كل مرة نجد الرجل يشكو من المحاصصة، وغل يديه من التصرف في تعيين قادة الجيش والأمن والمخابرات، بسبب اختلاف القلوب والسيوف، ويشكو من عدم الثقة، وبالفعل لم تترك المحاصصة ثقةً، ولا ضميراً حياً، ولا روحاً وطنية! أقول: إذا كان رئيس الوزراء يشكو كل هذه الشكاية فمَنْ له اليد والرأي! وخلاصة شكوى رأس السلطة التنفيذية كثرة الملاحين وخرق السفينة وضعف الرَّبان. وأجد غزارة الراغبين في السياسة بلوة أخرى، فهي الطريق المختصر السهل إلى مغانم عضوية البرلمان. قال الشيخ الوزير علي الشرقي (ت 1964) شاكياً زمنه وكان الحال أيسر بكثير: "آه لو تمطر السماء سياسةً... فيدار العراق بالأقطاب"، وله: "بلدي رؤوس كلَّه... أرأيت مزرعة البَصل" (الديوان). كان رئيس الوزراء نوري المالكي محقاً في شكواه، بين متذرع في آن ومهدد في آخر، لكن في أجواء الديمقراطية -الجائرة- المتولدة من الهرج والمرج، والعض على النَّواجذ من أجل المنصب وتقديم الحزب عبر شعار تقديم الطائفة، فهي الحزام الآمن لعصبة الحزب، ومن ثم لعصبة الشخص، وهنا يمكن الردُّ على ما تشكى منه المالكي، وفي الصميم هو قلَّة حيلته في شغل المراكز وفقاً لحسابته، والتي يراها نافعة. كان الغالب من العراقيين، وأنا أحدهم، يشعر بصدق الخطاب لدَى رئيس الوزراء، آملاً صدق القول وجدية الفعل، متلمساً القلق فيه على هذه البلاد وأهليها، حتى لم يسأل عن خلفية الرجل العلمية والعملية، ولم ينتبه إلى ذروة أمانيه وهو في المعارضة، يتجول بحي الست زينب في دمشق، أنه يكفيه أن يصبح مديراً للتربية والتعليم بمحافظة بابل مثلاً، قرب مضارب الأهل والأعمام، وها هو رئيس وزراء، وهذه نعمة النِّعم! اهتم بشعر جدَّه محمد حسن أبو المحاسن (ت 1926) من دون أن يذكره في الاسم الثلاثي، ذلك حسب سيرة الحياة المسطورة على موقع رئاسة الوزراء، وهي من غرائب كتابة السيرة العملية والعلمية لموظف عادي فكيف لرئيس وزراء، ولم يتلقب أبو المحاسن بالمالكي إنما تلقب بالجناجي، نسبة إلى قرية جناجة قريباً من الحلة، وبالحائري، نسبة إلى حائر كربلاء. لم يخلع الشيخ أبي المحاسن عمامته، وهو وزير المعارف(1925)، لكنها كانت عِمامة تقدم وإخاء بين الطوائف، فتجده يرثي محمود شوكت باشا (ت 1913)، صاحب الانقلاب الدستوري العثماني (1908): "بكى الشرق، يا خير الصدور الأعاظم.. عليك بمنهلِّ الدموع السواجم" (بصري، أعلام الأدب العراقي الحديث). أطنبت عند هذا التأصيل تحفيزاً للمالكي لحمل أمانة أبي المحاسن إن كانت رابطة الدم بينهما مباشرة أو غير مباشرة. أقول: صحيح أن العراق بحاجة إلى رئيس وزراء اقتصادي وإداري، لكن في المراكز السياسية يمكن تعويض المهنية بإدارة فنية. وهنا أسأل المالكي، ما هي مهنية موظفي إدارة تشريفات رئاسة الوزراء؟ وما هو اعتدال سيرتهم؟ هل يكفي مَنْ عمل في استعلامات مقر الحزب، في أيام المعارضة، أن يتأهل لتشريفات رئاسة وزراء العراق، ويمتطي طائرات خاصة في سفره، بينما قلب بغداد، شارع الرشيد، تأوي إليه الكلاب السائبة لبؤسه؟! أيصح أن يكون العمل في دائرة الصحة مؤهلاً لمنصب أمني خطير؟ أيكفي أن يكون دارس الكيمياء والمحتقن بالثأر، مسؤولاً عن ملف المساءلة والعدالة والمصالحة، وهي التي تحتاج إلى حقوقي محايد؟! أسألت عن أداء الذين وهبت لهم رئاسات الجامعات والمراكز العلمية الكبرى؟! أيجوز أن يصبح خريج الهندسة الكهربائية مستشار العراق السياسي، بل وكبير المستشارين؟! أليس محله في دائرة الكهرباء، مثلما القصاب والمراسل والحملدار يكون محله مكان آخر! تتقدم إدارتك وتوجه الاتهام إلى سوريا والسعودية، ونحن معك إذا كانت هناك وثائق وحجج، لكن ما قصة اتهام القيادة العسكرية الأميركية بالعراق لإيران، بينما ليس هناك كلمة واحدة ضد أي تجاوز إيراني! فكيف تريد موقفاً سليماً من الجامعة العربية والدولية في شأن الإرهاب! فإما أن تُكذِّب الأميركان علانية أو تستفيد من أدلتهم، وتعلنها بالمستوى نفسه ضد كل الجوار اللاعب في الأمن العراقي! لقد تطوقت بإدارة عاجزة، حزبية مائة بالمئة، فما الاختلاف عمَّا كان يفعله السابقون! أقولها حريصاً؛ بدأ النَّاس يصمون الآذان عند خطاباتك، بعد أن غدت الدار لغير العارفين، فقبل لوم الصداميين والتكفيريين، تقدم وأنظر لمَنْ مُنحت التيجان والسيوف المتقاطعة، وأعتمدْ على مهنيين يسدون لك الثغور! فالآلاف من المخلصين القادرين تبعدهم حزبية إدارتك الضيقة من مواقع خدمة البلاد.