يؤمن كل من أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون بأهمية التفاوض الدبلوماسي مع الخصوم. بيد أن كلينتون ترى ضرورة أن يتم ذلك من موقف القوة. وهي ذكية وتتمتع بقدر كبير من الصراحة. ثم إنها محبوبة لدى الكثيرين ممن يعتقدون أن من حقها أن تكون رئيسة لبلادها ذات يوم. ولكنها سرعان ما بدأت بالتحول إلى صقر لسياسات إدارة أوباما الخارجية، بينما يلاحظ بطء سير أوباما في الاتجاه نفسه. وبينما يتفق كلاهما على أهمية التفاوض الدبلوماسي مع الخصوم، ترى كلينتون ضرورة أن يتم هذا التفاوض من موقع القوة، خلافاً لأوباما الذي ينتقد الآن ويتهم باندفاعه للتفاوض مع الخصوم من مواقع الضعف، إن لم يكن التزلف والاسترضاء. ويبدو أن كلينتون تتبع ذات الأساليب التي اتبعتها من قبل عندما كانت عضواً في مجلس الشيوخ. فخلال الشهور الأولى لانضمامها إلى المجلس، فضلت كلينتون الهدوء والتعلم من خبرات زملائها السابقين، فضلاً عن استيعاب طرائق تلك المؤسسة التشريعية العريقة قبل أن تنتقل إلى مواقع الشخصيات البارزة واللاعبين الأساسيين. يلاحظ أن كلينتون اتبعت الطريقة نفسها إثر توليها مهام وزارة الخارجية في الإدارة الجديدة. فقد مضت عليها بضعة شهور درست فيها محتويات الكتيبات التعريفية بعمل الوزارة ومهامها، فضلاً عن دراستها لأدوار اللاعبين الرئيسيين في وزارتها، قبل أن تنزل بثقلها كله وزيرة لخارجية بلادها. فهذه هي المرأة التي وصفت أوباما خلال سباقها الرئاسي التمهيدي معه، بنقص الخبرة إلى حد يستحيل عليه رفع سماعة الهاتف لتلقي مكالمة طارئة ترده في الساعة الثالثة صباحاً. لكنها وبصفتها عضواً في مجلس وزراء حكومته، أظهرت قدراً كبيراً من الولاء للرئيس وسياساته المعلنة، مصحوباً بإرادة قوية في دعمها وتنفيذها. وعليه لم يكن مستغرباً أن تظهر كلينتون حزماً في مطالبتها لكوريا الشمالية بتعديل سلوكياتها النووية، أثناء جولتها الآسيوية الأولى. وخلالها أيضاً دعت كلينتون المسؤولين الباكستانيين علناً إلى الكف عن إيواء الإرهابيين. وبينما أعلنت كذلك دعمها للرئيس الأفغاني حامد كرزاي، أدرك العالم كله أنها حذرته سراً مما نسب إلى حكومته من ضعف وعجز وفساد. من بين الانتقادات القاسية التي وجهت لأوباما من قبل خصومه، وصف جولته الآسيوية بأنها كانت أقرب إلى الكارثة الدبلوماسية، منها للتغيير التاريخي الذي وعد به، لا سيما زيارته للصين. والحكمة المأثورة المتوارثة في مثل هذه الجولات الدبلوماسية ألا يسمح للرئيس بالقيام بها دون أن يسبقها اتفاق أو إجماع على القرارات النهائية التي يمكن أن تتوصل إليها تلك الجولة. كما تقر الحكمة كذلك الاتفاق المسبق على البروتوكولات، فضلاً عن حسن الإعداد المسبق والمكتوب لكلمات الوداع التي يلقيها الرئيس في كل زيارة من زياراته. ولم تخل جولة أوباما الآسيوية من هذه الترتيبات، غير أن المسؤولين الصينيين أقحموا الرئيس في سلسلة من المؤتمرات الصحفية التي لم يتفق على أسئلتها مسبقاً، ما أرغمه على التطرق بمفرده إلى مسائل حساسة مثل ممارسات الصين في مجال حقوق الإنسان في إقليم التبت، إضافة لإقحامه في اجتماع مفتوح رتبت له السلطات الصينية بحيث لا يكون لقاءً مع ممثلين لعامة الجمهور الصيني، إنما مع نخبة من الطلبة الشيوعيين الذين تم اختيارهم بعناية فائقة. وبين تلك الجولة وقبلها، استأسدت إسرائيل على الرئيس بعدم استجابتها لمطالبته إياها بتجميد أنشطتها الاستيطانية، بينما تجاهلته بيونج يانج باختبارها للمزيد من أسلحتها النووية وصواريخها الباليستية. أما داخلياً فقد اتهم أوباما بالتردد إزاء الاستجابة لمطالب قادته العسكريين الميدانيين إرسال المزيد من القوات، وانتقد لطول المدة التي استغرقها اتخاذ ذلك القرار. ليس ذلك فحسب، بل انتقد أوباما على عدم الوفاء بوعده الخاص بتسريع إغلاق سجن جوانتانامو، بينما ردت طهران على عرض التفاوض الدبلوماسي معها، بإعلان عزمها على إنشاء 10 مفاعلات نووية جديدة. ولم تختلف في السلوكيات نفسها موسكو، التي أعلن رئيسها الحالي ميدفيديف استعداده الوقوف إلى جانب واشنطن في فرض عقوبات إضافية على طهران في حال عدم تخليها أو وقفها لبرامج تخصيب اليورانيوم، بينما أشار رئيس وزرائها بوتين إلى معارضته لأي خطوة كهذه. ومما لا شك فيه أن كلينتون ووزير الدفاع روبرت جيتس، لعبا دوراً رئيسياً في إقناع أوباما بإرسال المزيد من القوات إلى أفغانستان. وفي الجانب الآخر من المشهد، هناك نائب الرئيس جو بايدن، الذي ربما بدا نادماً الآن على قبوله بمنصب نائب الرئيس بدلاً من حقيبة وزارة الخارجية، حسب ما روته عنه زوجته. وعلى رغم بلاغة أوباما وفصاحته، ورغم الشعبية الواسعة التي حققها عالمياً، إلا إن نظرة العالم الخارجي السائدة عنه اليوم هي افتقاره للحسم، إلى جانب تراجع شعبيته في الداخل بسبب السياسات التي تبناها إزاء عدة قضايا تهم عامة الشعب الأميركي مثل خطة إصلاح نظام الرعاية الصحية. نعود إلى كلينتون بالقول إن "مورين داود"الكاتبة في صحيفة نيويورك تايمز المعروفة، أثنت عليها بصفة خاصة خلال حضورها لاجتماع لأعضاء المجلس الوزاري مؤخراً بقولها: إنها من مسؤولي بلادنا النادرين الذين لا يكلون من السفر ليلاً ونهاراً إلى أقاصي الأرض. وهي في تفانيها هذا في خدمة مصالح بلادها، لا يهمها مطلقاً أن تدرك أو لا تدرك في أي منطقة زمنية تكون. فالذي يهمها قبل كل شيء آخر أن تكون أميركا وتكون مصالحها القومية دائماً. من جانبها ابتسمت كلينتون ابتسامة غامضة على ذلك التعليق، شأنها شأن الدبلوماسيين الحذقين الذين يجيدون إخفاء انطباعاتهم وانفعالاتهم الخاصة. والسؤال: ما الذي كانت تخفيه تلك الابتسامة الغامضة؟ جون هيوز مساعد سابق لوزير الخارجية في إدارة ريجان ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"