في الوقت الذي يُنشر فيه هذا المقال، تكون القمة الخليجية الثلاثون لدول مجلس التعاون قد قاربت على الانتهاء في دولة الكويت، وكالعادة تكون أيضاً قد اتضحت معالم البيان الختامي لهذه القمة، لذلك أتمنى أن يكون البيان الختامي معبراً بشكل أكثر تركيزاً على الشأن الخليجي الداخلي، وأن يبتعد، ولنعتبرها المرة الأولى، عن الشأن الدولي البعيد عن هموم المواطن الخليجي البسيط، أو ليقلل من هذه المساحة المتاحة له في مؤتمرات قمة سابقة. أراد القدر لخليجنا بحكم أهميته الاستراتيجية أن يحيا مواطنوه وسط طوق مشتعل يحيط بدولهم من عدة اتجاهات، له أثره الفعال وانعكاساته على أمنهم ومصالحهم بشكل مباشر. بعض دولنا ترى أنه من المستبعد وجود أخطار لجار مافتئت سياساته تنضح بالمزيد من الأخطار، ويكشر مسؤولوه عن أنياب ما يحيكونه من مكائد لمنطقتنا وأهلها، ويدير فوضاه المحيطة بنا من كل صوب، وربما يريد دفعنا إلى التسليم بسياسة الأمر الواقع وإيهامنا بأنه "المدير للإقليم". ومع الأسف أن بعض دولنا أيضاً تتيح الفرصة! لبعض مسؤولي هذا الجار لإلقاء المحاضرات علينا بين الفينة والأخرى، وتدعوهم لمنابرها بهذا الهدف، وكأننا لا نعرف مغزى ما يدور، ما يحتم الضرورة لإيجاد سياسة خارجية موحدة لدولنا تجاه هذا الجار، أو غيره، فقد أصبح هذا المطلب ضرورياً لأمننا. مقومات الدول الناجحة تقوم على ثلاث ركائز أساسية هي الأمن والتعليم والصحة، فإن اختلت إحدى هذه الركائز اختلت المعادلة اللازمة لاستقرار أي دولة، ما يجعل الفرصة إلى انحدارها لمصاف الدول الفاشلة أمراً محتماً. انتشر بين شبابنا ظاهرة التعليم في الخارج، سواء ببرامج ابتعاث من الحكومات التي لم تجد بدا من مجاراة الغالبية من مواطنيها، أو بدافع شخصي للطالب نفسه أو ذويه، ويفسرها المتفاؤلون بأنها نوع من "البرستيج" الاجتماعي لما نعيشه من حالة رفاه، بينما يراها المتشائمون أنها نتيجة لانحدار مستوى التعليم في جامعاتنا ما جعلها تحتل مراتب متأخرة في التقييم السنوي للجامعات. وليس عيباً أن نستفيد من خبرات علمية عالمية، ولكن ليس بهذا الحجم الذي يدفعنا للتشكيك في قدراتنا الأكاديمية لدرجة ربما نتأكد معها أن ما لدينا هي مجرد مبان تسمى جامعات وليست عقولاً مؤهلة لإنتاج عقول. وأصبحت الخدمات الصحية في دولنا من أسوأ الخدمات المقدمة على مستوى العالم، ولا أبالغ إنْ قلت: هي الأسوأ على الإطلاق، إذا ما وضعنا بعين الاعتبار الميزانيات الضخمة لوزارات الصحة في بلداننا الخليجية، والإمكانات الهائلة للبنى التحتية للخدمات الصحية، ولا ينقصها إلا العقول الإدارية المخلصة والحريصة على تقديم الخدمة للمريض من منطلقات إنسانية بحتة، وليست تحت الأضواء الكاشفة وعدسات الكاميرات الصحفية!. استشرى الفساد، وأصبح المواطن الخليجي البسيط يملك قائمة بأسعار كل خدمة يحتاجها، فإن كان دخله يسمح بتوفير هذه الخدمة لأبنائه وفرها لهم، وإنْ لم يتمكن أرجأها لوقت آخر، رغم أن هذه الخدمات في أنظمة وقوانين دولنا تعتبر من الخدمات المجانية!. للعلاقات الدولية مكان تشغله في كل قمة خليجية، لكننا يجب أن نراعي الأهم فالمهم، والأهم الآن من وجهة نظري، هو الأمن الخليجي على صعيديه الداخلي والخارجي، في وقت أصبحت فيه منطقتنا كالمرجل، تمور بالأخطار والصراعات من كل الجهات، فالأخطار أصبحت على الحدود بعد أن كانت مجرد حملات إعلامية كنا نفهم أنها تنفيس عن حالات احتقان داخلية يشهدها من يطلقها، أصبح الدم مسفوحاً من أبنائنا وبهم، أصبح بعض مواطني الخليج العربي يسمعون صوت التفجيرات، وطلاقات المدافع، وقنابل الطائرات، بعد أن كانوا لا يعرفونها إلا عبر التلفزة. لسنا قريبين من القضية الفلسطينية أكثر من أبنائها، وها هم متناحرون ومتخاصمون منذ نحو أربعة أعوام، بين مخون ومكفر، ولن ينصلح حالهم ولا حال قضيتهم وهم في هذا التخندق المصلحي. لست ممن يطالبون بتهميش قضية العرب والمسلمين الأولى، ولكن طول بقاء هذه القضية عالقة دون حل جعل هناك أولويات تتقدم عليها، ولكل الدول يبقى الشأن الداخلي هو الأولوية التي لا يسبقها شيئ، فإن صلحت استطاعت الدول متابعة سياساتها الخارجية. تحالفنا الخليجي ليس مجرد تجمع نختار أوقاته متى شئنا، بل هو تحالف يعتمد وحدة المصير فرضته الحاجة إليه، وتقارب دوله على كافة الأصعدة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية، فالحرص على مصالحنا وأولوياتنا من خلال رؤية عمل موحدة أصبحت ضرورة يجب علينا تقديمها على أية اهتمامات أخرى مهما كان شأنها. يجب أن نتعالى على الصغائر وننظر بعين الحكمة لعلاقاتنا البينية من منظور التوحد بين الأشقاء، ونستبعد النظر في المصالح الخاصة لصالح شأن دولنا العام وهمومها الموحدة، دون أخذ أي اعتبار للانفعالات التي تنتجها عواطف الاختلاف في وجهات النظر. ولا أريد أن يُفهم من هذا أنه مطالبة بالانكفاء إلى الداخل، وترك الخارج المحيط ساحة يجد الغير نفسه فيها متفرداً، لكنها الموازنة التي يجب أن تكون في تراص الصفوف لدول مجلس التعاون الخليجي قلباً واحداً وقراراً واحداً جامعاً، وفي خط متوازٍ للاتجاهين، والعمل على أن تكون دول مجلس التعاون الخليجي شريكاً استراتيجياً للدول الكبرى فيما يخص المنطقة وصنع سياساتها المستقبلية، وليست مجرد مراقب لن يسلم من التداعيات لو حدث ما هو أسوأ. لنتعظ من تركنا العراق ساحة للغير بينما نحن مراقبون لما يحدث فيه منذ ستة أعوام، ولنقم بالمبادرة بدلًا من الانتظار لحين طلب التدخل، لنصنع لنا مكاناً يليق بحجم اقتصادياتنا، ودورها الفاعل في العالم، ونوازيها بسياسات تجعل منا تحالفاً متكاتفاً لا يُستهان به.