"طارق أوبرو" هو إمام مسجد مدينة بوردو في فرنسا، من أصل مغربي، نشر مؤخراً كتاباً حوارياً متميزاً بعنوان "مهنة إمام"، أثار اهتماماً واسعاً في الوسط الثقافي والإعلامي الفرنسي. كنت قد تعرفت على الإمام أوبرو، الذي هو في الآن نفسه وجه فكري مرموق عبر كتاب جدلي مشترك مع عالمة الاجتماع الجزائرية "ليلي بابس"، صدر قبل سبع سنوات بعنوان "شريعة الله وقانون البشر"، تمحور حول المسألة النسوية والعلاقة بين الجنسين، ومقتضيات الحرية في عالم اليوم. وقد بدا لي "أوبرو" وقتها رجلًا واسع الاطلاع، عميق الثقافة الإسلامية، له إلمام جيد بالفلسفة الغربية والعلوم الإنسانية، مع انفتاح لافت للانتباه، واستعداد جلي للحوار، وقبول الرأي الآخر دون تعصب أو انغلاق. بيد أن الكتاب الجديد يكشف عن تحول كبير في مشروع الإمام، الذي كان قريباً من التيار الإخواني الكلاسيكي، وأصبح يقر بوضوح لا لبس فيه "بفشل هذا التيار"، وعدم ملاءمته فكرياً لتحديات المرحلة الراهنة. ولئن كان أكثر ما أثار اهتمام الإعلام الفرنسي هو مواقفه الجريئة من مسألة "الزي الإسلامي " أو "الحجاب" (لا يتردد في القول إن تغطية شعر المرأة التزام أخلاقي ذاتي وليس فريضة دينية) وموقفه من العلمانية (التي يعتبرها فرصة وليس عائقا أمام الممارسة الدينية)، فإن الإسهام الجوهري لأوبرو يكمن في بلورته لعدة مفهومية جديدة يقدمها إطاراً نظرياً ومنهجياً متكاملًا لإعادة بناء علوم التأويل الإسلامية، التي لم تعد قادرة حسب رأيه على تحقيق مصالحة المسلمين المنشودة مع عصرهم. ومن الواضح أن "طارق أوبرو" يتجاوز الأطروحتين الاجتهاديتين اللتين يقدمهما المفكرون الإسلاميون راهناً لتجديد الدين وهما: إعادة بناء نظرية المقاصد الأصولية (كما قننها الشاطبي)، وبناء فقه للمرحلة وللأقليات. فالمشكل الذي تطرحه نظرية المقاصد هو تحديد معيار المصلحة، وترتيب علاقتها بالنصوص القطعية، في حين ليس فقه الأقليات وفقه المرحلة سوى ترقيع جزئي ينم عن عجز ضمني عن ممارسة الاجتهاد ضمن المقاييس التأويلية التقليدية للمنظومة الأصولية وقواعد الفقه). للخروج من هذا المأزق، يعيد "أوبرو" بناء مفهوم الدين نفسه، مبيناً أنه يشمل بالإضافة إلى الجانبين العقدي والمعياري المقوم التاريخي والإنساني. فالإنساني امتداد للإلهي، وليس في قطيعة معه، والتاريخ هو سياق التنزيل الرباني، والنص لا معنى له خارج اهتمامات الناس الحالية، فهو نقطة الابتداء والقوة الدافعة ومعين الدلالة، وليس المحطة النهائية المكتملة أو الحاجز المعيق للتدبر والتجدد. فالقرآن الكريم لا يخاطب إنساناً مجرداً خارج التاريخ، وإنما يتجه دوماً لإنسان في سياق محدد، وله ذاتية مميزة وتاريخ وظرفية معلومة. وعلى الرغم من كل الاختلافات الكلامية المعقدة حول طبيعة القرآن الكريم (هل هو مخلوق أم هو كلام الله الذاتي غير المخلوق)، فإن المسلمين اتفقوا على الفصل بين ذات الله والنص القرآني كوحي منزل لا يمكن اعتباره على الطريقة المسيحية تجسيداً للخالق، وإنما خطاباً إلهياً موجهاً للبشر. فالعلاقة القائمة بالقرآن هي علاقة خطاب لا علاقة أنطولوجية. ولذا لم يجد المفسرون والفقهاء غضاضة في تطبيق المناهج اللغوية والبلاغية والنحوية على هذا النص المقدس كغيره من النصوص الناطقة بلسان عربي مبين. فالسجل الدلالي الإسلامي يتحدد في العلاقة العضوية المركبة القائمة بين ضربين من التأويلية :تأويلية "فقهية – نصية " و"تأويلية لاهوتية – طبيعية"، باعتبار العلاقة الضرورية بين الإرادة التشريعية الإلهية ونظام الوجود الذي هو مدار القدر الكوني. فلا يمكن تصور تعارض النظامين، ولا معنى للتعلل بحرفية النص للوقوف ضد الأقدار الكونية التي هي من مظاهر الإرادة الإلهية. وينتج عن الوعي بهذه الحقيقة القول بضرورة تكريس قطيعة منهجية وابستمولوجية كاملة داخل السياق التأويلي الإسلامي، بالنظر للنص لا من حيث سياق تنزيله الأصلي (المجتمع العربي في القرن السادس الميلادي) وإنما في سياقنا الراهن المغاير تماما من حيث السمات والتحديات، وبالتالي فإن الأجوبة ستكون مغايرة، حتى لو كانت الغايات والثوابت الكبرى لا تتغير ولا تتبدل. ويبين "أوبرو" أن المسلمين مرغمون اليوم على معايشة دينهم ضمن محددات الحداثة التي قوضت البنيات الجماعية للاعتقاد، وكرست قيمة استقلالية ورشد الإنسان، وفرضت قسمة لا رجعة فيها بين الدائرتين العمومية والخصوصية، وليس في هذا التحول ما يعيق ممارسة المسلم لدينه مع احترام التزامات المواطنة. يحمل كتاب "طارق أوبرو" كثيراً من الآراء الجريئة والأفكار التجديدية المهمة، بيد أن طبيعة الكتاب وخلفية محاوري المؤلف لا تسمحان بتقديم مقاربة مكتملة نظرياً ومنهجياً. وتكمن أهمية أطروحات أوبرو"أنها صادرة عن إمام مسجد وشخصية دينية، كفلت له إقامته الطويلة في فرنسا الاطلاع الواسع على حقول معرفية جديدة يجهلها بالكامل من يسمون بالمفكرين الإسلاميين المجددين، كالنظريات اللسانية واللغوية المعاصر ونظريات تحليل الخطاب وفلسفات الهرمنوطيقا والانثربولوجيا الدينية. ولذا يتعزز الانطباع أن تجديد الفكر الإسلامي، لن يأتي من البلاد المسلمة، وإنما من "الإسلام الأوروبي" الذي أصبح يضم وجوهاً إصلاحية وفكرية بارزة. والنتيجة البارزة من هذه الوقفة مع كتاب "أوبرو" هي أن الحقل الفقهي أصبح مرغماً على تجديد أدواته المفهومية والإجرائية، وإن الفقه الذي هو في آن واحد ممارسة تأويلية وممارسة معيارية تشريعية، لا يمكن أن ينعزل عن فتوحات العلوم الإنسانية المعاصرةالتي توفر آفاقاً رحبة في صناعة الفقه. فغني عن البيان أن المجتمعات المسلمة، تعيش راهناً، انفصاماً متزايداً بين تراثها الفقهي، الذي لا يزال عليه مدار الفتوى وواقعها الذي تحكمه تشريعات ونظم جديدة مستوردة في الغالب من سجلات معيارية غربية. ومن المؤسف أن دور الإفتاء ومجامع الفتوى التي أنشئت لسد هذه الفجوة، كان أثرها إجمالًا هزيلًا، ولعلها أثرت "سلامة الورع" على مسؤولية الاجتهاد والتجديد.