دمج مخططو واشنطن الاستراتيجيون كلاً من أفغانستان وباكستان في جبهة عمليات عسكرية واحدة أصبحت تعرف في البنتاجون باسم "أفباك". لكن ربما يكون الاستراتيجيون العسكريون قد ارتكبوا خطأً بدمجهم لهاتين الجبهتين المختلفتين عن بعضهما في مسرح عملياتي واحد. فخلافاً لواجب حماية باكستان وترسانتها النووية من احتمالات سيطرة المتطرفين الإسلاميين عليهما، تساهم تلك الاستراتيجية في إضعاف المؤسسات المركزية الحكومية في إسلام أباد، ما يؤدي إلى خلق الظروف نفسها التي طالما تخشاها واشنطن. فالنزاع المسلح الدائر في منطقة القبائل يساهم في زعزعة باكستان اجتماعياً وسياسياً إلى جانب تسببه في خلق كارثة إنسانية في غاية الخطورة والمأساوية. ولم تثر هذه العمليات العسكرية التي تنفذ في المنطقة المذكورة مشاعر الغضب الشعبي على واشنطن وحدها، إنما تثير المشاعر نفسها وبدرجة أشد على الحكومة الباكستانية التي ينظر إليها على أنها تتعاون مع واشنطن ضد مواطنيها. ومثلما كان ينظر إلى حرب بوش الدولية على الإرهاب على أنها حرب على الإسلام والمسلمين، كذلك ينظر اليوم إلى الحملات العسكرية التي يشنها الجيش الباكستاني على منطقة القبائل الحدودية على أنها حرب تشن من قبل غير المسلمين على المسلمين في تلك المنطقة. وبدلاً من أن تسهم هذه الحملات في إضعاف الأحزاب والجماعات الدينية المتطرفة كما كان متوقعاً ومخططاً لها، تساعد تلك الحملات على استقطاب المزيد من المتعاطفين معها والمستعدين للانضمام والقتال في صفوفها. هذا وقد تسببت الضربات الصاروخية التي تنفذها طائرات أميركية بلا طيارين داخل الأراضي الباكستانية موجة عداء خاصة لأميركا في أوساط الباكستانيين. وعلى رغم أن تلك الضربات تهدف في الأساس لاستئصال المقاتلين الأجانب، بمن فيهم مقاتلو تنظيم "القاعدة"، إلا أنها كثيراً ما أزهقت أرواح المدنيين الأبرياء من المقيمين في منطقة القبائل المستهدفة عسكرياً. وأكثر ما يثير الغضب ومشاعر العداء لأميركا أن ضحايا تلك الضربات كثيراً ما كانوا من الأطفال والنساء والعائلات التي لا شأن لها بالنزاع الدائر بين أميركا وأعدائها من المتطرفين في المنطقة. يذكر أن واشنطن قد صعدت ضغوطها على إسلام أباد، بغية حثها على توسيع حربها على المتطرفين لتشمل منطقة القبائل الحدودية التي تخضع للإدارة الفيدرالية، على اعتقاد من واشنطن باختباء زعيم تنظيم "القاعدة" وعدد من مقاتليه الأشداء هناك. كما يعتقد المسؤولون العسكريون والاستخباريون في واشنطن أنه وما لم تغلق تلك الملاذات الآمنة التي يتمتع بها تنظيم "القاعدة" وحركة "طالبان" داخل الأراضي الباكستانية، إلى جانب قتل أولئك المتمردين أو إلقاء القبض عليهم أو إرغامهم على مغادرة تلك الملاذات، فليس ثمة أمل للفوز بالحرب الأفغانية مطلقاً. وفي سبيل تحقيق هذه السياسة، تدفقت الأموال والأسلحة الأميركية، إضافة إلى تزايد وصول أفواج أكبر من المستشارين الاستخباراتيين والعسكريين الأميركيين إلى باكستان، بهدف حث الجيش الباكستاني على تكثيف حملات البحث عن المتمردين والإرهابيين الفارين والقضاء عليهم. غير أن هذه الجهود لم تحقق أهدافها على أية حال. ففي حين ازدادت مشاعر الغضب والعداء لهذه الحملات، هناك ما يشير إلى فرار المتمردين المطلوبين إلى أعماق المناطق الجبلية، بنية العودة مجدداً إلى المناطق التي فروا منها، ما أن يعلن الجيش الباكستاني عن نهاية عملياته العسكرية. وهكذا بدا واضحا لكل مراقب موضوعي لما يجري الآن، أن إسلام أباد هي الضحية الأولى لاستراتيجية الحرب الأميركية على أفغانستان. فقد رأينا كيف استجاب المتمردون لتصعيد العمليات التي تستهدفهم من قبل واشنطن بشن سلسلة من العمليات والتفجيرات الإرهابية في عدد من المدن الباكستانية مؤخراً، ما أدى إلى سقوط وإصابة العشرات. وبتلك العمليات أثبت المتمردون قدرتهم على اختراق المناطق الحضرية الباكستانية وتنفيذ عمليات دموية قاتلة فيها. وفي الوقت نفسه أرغم مئات الآلاف من المدنيين على الفرار من قراهم وديارهم في منطقة وادي سوات وفي شمالي وجنوبي إقليم وزيرستان. ولمن يحسن النظر والمراقبة فإن هناك الكثير جداً من الثغرات والعيوب في هذه السياسة التي تصر عليها واشنطن. يجدر بالذكر أيضاً أن للجيش الباكستاني، لا سيما وكالة استخباراته القوية النفوذ التي تعرف اختصاراً باسم ISI تعاطفاً مع حركة "طالبان" الباكستانية، وذلك على رغم الضغوط المتواصلة التي تمارسها واشنطن. وبينما يمكن لواشنطن إقناع قوات الجيش والاستخبارات الباكستانية بملاحقة وقتل العناصر العربية والشيشانية في صفوف متمردي طالبان -في حال تمكن القوات من العثور على تلك العناصر أصلاً- يلاحظ أن الجيش الوطني وأجهزة مخابراته يبديان تردداً ملحوظاً في ملاحقة وقتل جميع من يسمون بـ"الجهاديين". فطالما استمر النزاع الباكستاني -الهندي حول إقليم كشمير، لن يكف الجيش الباكستاني عن توفير الدعم السري للجماعات الجهادية هذه، بهدف استخدامها ضد نيودلهي في النزاع الإقليمي المذكور، إضافة إلى استغلال الجماعات نفسها بهدف إضعاف النفوذ الهندي على أفغانستان، التي طالما نظرت إليها إسلام أباد على أنها تمثل عمقاً استراتيجياً لها في المنطقة. يذكر أيضاً أن قبائل البشتون وهي المجموعة العرقية الغالبة في منطقة القبائل الباكستانية، عرفت دائماً برفضها ومقاومتها للتدخل الأجنبي في شؤونها. هذا ما يفسر استمرار قتال هذه القبائل لمحاولات بريطانيا المستمرة التدخل في شؤون حياتهم طوال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وهي الفترة التي حكمت فيها بريطانيا شبه القارة الهندية. وبالمثل تواصل هذه القبائل اليوم قتالها الشرس ضد عاصمة بلادهم إسلام أباد وحلفائها الأميركيين. عليه فليس مستغرباً أن تسود المنطقة مشاعر الغضب الشعبي العارم على عمليات القصف الجوي التي تنفذها المقاتلات الأميركية في منطقة وزيرستان وما جاورها، بعد أن ألحقت تلك الضربات خسائر فادحة بالسكان المدنيين. ولعل الأمل الوحيد لتهدئة هذه المنطقة وتخليصها من المتمردين والمقاتلين الأجانب - في حال تواجدهم حتى الآن فيها- هو إبرام صفقات سلام مع زعمائها العشائريين، على غرار محاولات حكومة إسلام أباد خلال السنوات الأخيرة من حرب إدارة بوش على الإرهاب. كما يتعين توفير الموارد المالية اللازمة للتنمية، بشرط أن تترك القبائل لتولي إدارة شؤون حياتها بنفسها وتفادي عدم التدخل فيها. وتنطبق السياسات نفسها على أفغانستان، حيث تعرف قبائل البشتون هناك برفضها المستمر للتدخل الأجنبي في شؤون حياتها. ويجب عدم الخلط بين تلك القبائل المتمسكة بالدفاع عن تقاليدها ومعتقداتها الدينية، وحركة "طالبان" وتنظيم "القاعدة"، بل يجب بذل كل ما هو ممكن للتعامل مع هذه القبائل على أساس استقلالها التام عن "طالبان" وتنظيم "القاعدة". ويتطلب كل هذا أن تسارع واشنطن بإعادة النظر في استراتيجيتها الخاصة بأفغانستان قبل فوات الأوان.