سألت صديقي العائد من الحج: هل سمع بما حدث في مدينة جدة من وفيات جراء السيول المدمرة التي حدثت هناك؟ قال: في الحج لم نسمع شيئاً فالكل مشغول بفريضته، ولم يكن هناك وقت لا للتلفزيون والراديو ولا للصحف. ... ثم أضاف صديقي: لم نعرف ما جرى إلا عندما رجعنا للعاصمة وسألنا من في البيوت عن أحوالنا، وسألناهم بدورنا ماذا حدث بعد غيابنا؟ ما قاله صديقي صحيح، فكل الأحداث القديمة التي حصلت من قبل في هذا الجزء من العالم أو ذاك، وقعت وعلِم بها المحيطون ولم يعلم عنها البعيدون إلا بعد مرور وقت طويل من الزمن، لتتساوى في هذا الأحداث المأسوية والوقائع العسكرية ومجريات الحراك السياسي وما يحدث بين الناس من أزمات أو نمو اقتصادي. من كانوا من العامة خارج نطاق المشاعر المقدسة عرفوا ما حدث في جدة في الحال والتو، وتكفلت مواقع الإنترنت والفضائيات بنقل الحدث أولاً بأول، وأصبح الناس على علمٍ بحجم الكارثة وأبعادها وفي وقت قياسي لا يتعدى النصف ساعة إن لم يكن أقل. هل أحسنت تلك السرعة الإعلامية القياسية وسهولة الاتصال ونقل المعلومات بما تفعل أم أساءت؟ بالطبع الحسنات أكثر بكثير من المساوئ، ولا وجه للمقارنة مع الاعتراف بخطر السلبيات على قلتها. لم يعد أحدٌ قادراً على الاختباء وراء نصف الحقائق، ولم يعد أحدٌ يستطيع النفي ولا الإثبات حول واقعة ما، وسائل الإعلام والاتصال المختلفة هي الكفيلة بإعطاء الحقائق كاملة، وهي التي عبر ما تبثه قادرة على جعل أحكام الناس أكثر دقة وصوابية. ... مثلاً: لو أن وسائل الاتصال في وقتنا الحاضر كانت حاضرة لحرب موغلة في القدم لكنا قد عرفنا حقيقةً نتائج الحرب وأعداد القتلى والجرحى والأسرى جراء هذه الحرب، بدلاً من الإحصائيات المبالغ فيها وغير المنطقية التي يسردها لنا مؤرخو الأزمنة الغابرة، ضاربين عرض الحائط بالعقلانية والحيادية، اللتين كان يمكن توافرهما لو كانت ثمة آنذاك كاميرا صغيرة لا تتعدى عرض شاشتها مليمترات قليلة. في المجال الرياضي -وعلى سبيل المثال أيضاً- شاهدنا في الأيام الماضية "الفيفا" وهو يفكر في كيفية إنصاف إيرلندا من "الهدف اليدوي" الذي تم بفضله تأهل فرنسا لكأس العالم بدلاً من المتضرر، ولو حدثت هذه الواقعة في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، لما عرف متابعو المونديال حول العالم ما حدث، إلا عبر صحف مضت على طباعتها ونشرها أسابيع. وأكاد أجزم بأن هتلر وموسليني وستالين ما كانوا ليصبحوا بذاك الخطر الذي عُرف عنهم وتبعات قراراتهم على دولهم والدول الأخرى، لو كانوا يعيشون بيننا في القرن الحادي والعشرين؛ فبولندا لم تكن لتُحتل بحجة واهية من هتلر -وكبداية للحرب العالمية الثانية- بسبب ما قيل من اعتداء بولندي على ألمانيا! وموسليني لم يكن له حظ من التواجد وبريق الخطب الساذجة الموجهة للفاشست، ولن يسمح العالم كما وقع مع الإعلام القديم، بأن يتواجد بين ظهرانينا في الوقت الحاضر بمثل ذاك الشذوذ في القيادة، ولكان الإيطاليون قد اختاروا زعامة بديلة بدلاً من فوضى الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي. ... وستالين، هل كان يمكن أن يعدم عشرات الملايين من الروس بحجة التطهير وتقوية الجبهة الداخلية لو أن روسيا الآن كانت هي روسيا الأمس؟ الفضل -بعد الله- هو للصحافة وللمذياع وللشاشات والهواتف النقالة والمواقع. لم يسقط حائط برلين بواسطة صواريخ الغرب، بل بالمثال الذي قدمه للحياة المرفهة للعامل والموظف والإنسان البسيط الغربي، من خلال إذاعة "أوروبا الحرة" الموجهة للدول الشيوعية عامةً ولألمانيا الشرقية خصوصاً. وقس على ذلك الأحداث الاقتصادية والفنية والاجتماعية الأخرى حول العالم، وستجد أن الإرسال على الهواء وما بعد ذلك من تحليلات ومقالات وكتب ونشرات وتعليقات هو الذي غير العالم، ولا شيء آخر. لكن هذا العالم المتسارع إعلامياً واتصالياً وسهولة وصول الخبر ودقته، أحدث تعوداً للمزاج الشعبي مع الكوارث، فبدأنا نراها وكأننا نعيشها أولاً بأول، ثم نألف تلك المناظر وبعد ذلك لا تحرك فينا شعوراً إلا ما كان من صدمتها الأولى. كانت نكبة فلسطين أكثر وقعاً في نفس العربي البعيد بالرغم أنه لم يرها من خلال المشاهد والصور إلا متأخراً جداً، في نفس الوقت كنا نشاهد قبل شهور وعلى الهواء مباشرةً ماذا يحدث من قصف إسرائيلي على لبنان وغزة فلا ننفعل، إلا عندما يأتي خبر جديد قادم من كنـز الأحزان ليغطي على الخبر الوليد التعس السابق الآخر! والنكبات الاقتصادية هي الأخرى أصبحت بفضل الإعلام حاضرة بين الناس وعلى الهواء، ولذا نشاهد ونعلم عن انهيارات في أسواق المال الأخرى ساعة إعلان خسائر بنك متوسط في أميركا أو شركة سيارات في أوروبا أو منجم ذهب في الصين أو في جنوب أفريقيا، فتعولمت الأزمات الاقتصادية والأزمات النفسية اللاحقة، وأصبح الأمر مشوشاً بفعل الخبر العاجل ومعلومات الهواء الفضائي المباشر. إنه اليقين من المعلومات والأخبار والوقائع، إضافةً للدقة والسرعة والشفافية، مقابل قلق الإنسان الدائم أحياناً وتبلد أحاسيسه أحياناً أخرى؛ والإعلام شريك في الفنون والإبداع والحرية، وهو كذلك المثير الأكبر للغرائز ومن وقت لآخر هو مسوغ الظلم ومبرره، والمتغاضي عن حقوق الشعوب ومعطي الأعذار كذلك لبربرية الإنسان ضد أخيه الإنسان. وأنت شاخص ببصرك إلى الشاشات وتتابع ما يُبث مباشرة وعلى الهواء، ستشاهد توزيع جوائز نوبل في الآداب والطب والعلوم والخدمة الإنسانية، كما ستشاهد أحداث مباراة كرة قدم صاخبة، وسترى محاولات فهم كيف بدأ الانفجار العظيم للكون، وتشاهد -مسترخياً- كذلك قتلى في فيضانات الماء والإهمال، أو صهر عائلات كاملة تحت ركام قصف صاروخي بحجة فرض النظام والقانون ومحاربة الإرهاب!