منذ بداية التاريخ ابتلي أفراد الجنس البشري بميكروب شرس حصد أرواح الملايين من أفراده هو ميكروب السل. حيث أظهرت الدراسات التي أجريت على بقايا عظام إنسان الكهف، أن المجتمعات البشرية قبل سبعة آلاف سنة كانت ترزح تحت وطأة مرض السل، وحتى الفراعنة في مصر القديمة ظهرت آثار السل في العمود الفقري لمومياواتهم. وخلال القرنين التاسع عشر والعشرين، شكل السل أكبر مشكلة صحية عامة تواجه المجتمعات البشرية في ذلك الوقت، إلى درجة أطلق عليه معها لقب "الطاعون الأبيض"، بسبب تشابهه مع الطاعون المعروف من حيث حجم الضحايا، واتصاف مرضاه بلون شاحب أبيض. ففي إنجلترا مثلا عام 1815 أظهرت الإحصائيات أن السل مسؤول عن ربع الوفيات التي كانت تقع حينها، وفي الوقت نفسه أظهرت الإحصائيات الفرنسية عام 1918 أن السل مسؤول عن سدس الوفيات التي كانت تقع هناك حينها. ويكفي أن نسترجع الإحصائيات والأرقام المتعلقة بمرض السل أو الدرن في وقتنا الحالي كي ندرك مدى فداحة الخطر الذي يتهدد البشرية من جراء هذا المرض اللعين. فمن بين جميع أفراد الجنس البشري، يتواجد الميكروب المسبب للسل داخل جسد واحد من بين كل ثلاثة أشخاص، وهو ما يترجم إلى أكثر من ملياري إنسان مصابين بالسل حالياً. هذا بالإضافة إلى أنه بمرور كل ثانية من كل يوم، ينجح هذا الميكروب في غزو جسد شخص آخر للمرة الأولى، وهو ما يؤدي إلى قرابة التسعة ملايين حالة عدوى جديدة في العام الواحد. وكل أعداد العدوى والإصابات هذه تنتج عنها في النهاية وفاة أكثر من مليون ونصف المليون شخص سنوياً (1.77 مليون عام 2007)، مما يجعل السل في مقدمة قائمة الأمراض التي تفتك بالجنس البشري على الإطلاق، ولا ينازعه على هذا اللقب إلا مرضا الإيدز والملاريا. وتعرف هذه الأمراض الثلاثة باسم محور الشر الطبي الثلاثي. وعلى رغم هذا شهدت المواجهة بين الإنسان وميكروب السل تغيراً جذرياً مع اكتشاف المضادات الحيوية في عام 1946، وبالتحديد عقار "الستربتوميسين". وهو الاكتشاف الذي ولد آمالا كبيرة في أن البشرية ربما سيكتب لها أخيراً الانتصار، في معركتها المصيرية مع هذا المرض اللعين. ومما زاد من هذه الآمال حدوث انخفاض هائل في حالات السل مع انتشار استخدام "الستربتوميسين". فمثلا في أوروبا، انخفض عدد الوفيات من السل من خمسمائة وفاة لكل مئة ألف شخص، إلى مجرد خمسين وفاة لكل مئة ألف شخص. وهو ما يترجم إلى انخفاض بمقدار تسعين في المئة، بعد أربع سنوات فقط من اكتشاف "الستربتوميسين". غير أن هذه الآمال سرعان ما تلاشت مع ظهور أنواع من الميكروب مقاومة للمضادات الحيوية، أدت إلى عكس الوضع، وتسببت في تزايد مطرد في عدد المرضى مرة أخرى. وعلى سبيل المثال ففي بريطانيا استمر انخفاض عدد حالات السل من خمسين ألف حالة في عام 1955، إلى خمسة آلاف حالة فقط في عام 1987، ولكن مع حلول عام 2001 شهد عدد الحالات ازدياداً مرة أخرى. وهذا الموقف الذي تكرر في جميع أنحاء العالم دفع منظمة الصحة العالمية في عام 1993 إلى الإعلان عن تحول السل إلى طارئ عالمي، في سابقة هي الأولى من نوعها. ولعل نتائج هذا الإعلان اتضحت الأسبوع الماضي، عندما أظهرت الإحصائيات نجاح البرامج العلاجية التي خططت ونفذت خلال الخمسة عشر عاماً الماضية، في تحقيق الشفاء لحوالي 36 مليون شخص، وفي منع حوالي ثمانية ملايين وفاة بسبب السل خلال تلك الفترة. وهو ما يؤكد أن الاستراتيجية التي اتبعت خلال هذه الأعوام، والمعتمدة على المتابعة المباشرة من قبل أفراد الطاقم الصحي أثناء العلاج، هي أكثر السبل فعالية في جهود مكافحة انتشار السل، وفي وقف الوفيات الناتجة عنه. وتعتمد هذه الاستراتيجية على خمسة عناصر أساسية تضمن نجاحها، وهي 1) الالتزام والإرادة السياسية المتمثل في زيادة الموارد المالية المخصصة لمكافحة المرض، واستدامتها على المدى الطويل. 2) التشخيص والكشف المبكر عن حالات الإصابة، باستخدام طرق معملية مؤكدة الجودة. 3) العلاج الموثق والقياسي، بالترافق مع متابعة ودعم المريض أثناء العلاج. 4) ضمان وصول الأدوية إلى المناطق والأشخاص الذين يحتاجونها، بشكل منتظم ودائم، من خلال نظام إدارة مستقر وفعال. 5) المتابعة المستمرة، والتقييم الدائم، لتحديد مدى فعالية البرنامج برمته، وتأثيره الصحي العام. وإذا ما خصصنا بالحديث العنصر الأول في تلك الاستراتيجية، أي عنصر الإرادة السياسية، فسنجد بالفعل أن "الخطة العالمية لوقف السل بين عامي 2006 و2015"، التي أطلقت في يناير عام 2006 ضمن أهداف الألفية الثالثة، من خلال جمع 67 مليار دولار من الدول والمنظمات المانحة، تمثل زيادة بمقدار الثلاثة أضعاف عما تم استثماره في هذا المجال في عام 2005. حيث سيمكن من خلال هذه الخطة الوصول بالعناية الصحية إلى جميع مرضى السل، وتحقيق الهدف الرئيسي المتمثل في خفض الوفيات الناتجة عن السل بمقدار خمسين في المئة بحلول عام 2015، مقارنة بمستوياتها عام 1990، بالإضافة إلى عكس الاتجاه الحالي المتمثل في تصاعد معدلات الإصابة عاماً بعد عام. د. أكمل عبدالحكيم