لا يمكن للمرء أن يخفي شعوره بالحيرة حيال ما يذهب إليه البعض من رأي غريب متكرر حول ضرورة العمل لتحقيق "مصالحة" بين الإسلام والمسيحية، لأن الكلام عن "المصارحة" ثم المصالحة بين هذين الدينين الكبيرين، ينطوي على افتراض ضمني مؤداه وجود "خصومة" بينهما. ولا يدري المرء من أين أتت هذه الخصومة، إن كانت موجودة: هل هي من مخلفات العصور الوسطى والحروب الصليبية، أم أنها من أصول معاصرة متطرفة تستمد فكرة العمل السياسي من افتراض وجود صراع ديني موهوم؟ إن هذه المسألة تستحق المناقشة، ذلك لأنها تفرض على الصراعات الجارية اليوم أطراً دينية وحيدة الجانب. وهذا ليس حقيقياً، بطبيعة الحال. إن فكرة وجود "خصومة" بين الإسلام والمسيحية لا يمكن أن تكون مقبولة إلا بحسب معايير مختلة وخطيرة تنتشر هذه الأيام، ومن أهمها المعيار المعتمد على تقليص صراع الحضارات أو الحوار الثقافي إلى جزئية دينية مبتسرة ومخلة. فإذا ما كان هذا التقليص المشوب بالعصبية الطائفية وبالخلل يعتمد على مجرد الاختلاف الديني، نكون قد قدنا أنفسنا نحو خصومات جديدة لسنا في حاجة إليها ولا تخطر على بال أحد. إن ثنائية التنافر/الخصومة قد تقودنا إلى حال مماثل من قبيل افتراض كوننا في خصومة مع الديانات العالمية الكبرى الأخرى كالهندوسية والبوذية والكونفشيوسية، وغيرها من الاعتقادات الدينية التي يعتنقها الملايين من البشر. طبعاً ندرك جيداً أننا كمسلمين لسنا أعداء للهندوس ولا للبوذيين ولا للشعوب البدائية التي تؤمن بأنظمة روحية من أنواع مختلفة. ثم، هل تنطلق افتراضات الخصومة/ المصالحة مع المسيحية من حقائق جغرافية/ تاريخية قادت إلى ارتطامات بين كينونات مسلمة وأخرى مسيحية، نظراً لحقيقة الجوار الجغرافي بين العالمين الإسلامي والأوروبي المسيحي. ولنا في فتح الأندلس والبقاء العربي/الإسلامي المتحضر في شبه جزيرة إيبريا لثمانية قرون نموذجاً للطبيعة "الدورية" للتاريخ والتعايش. ولنا، ثانية، في العصر الذهبي للكولونياليات الأوروبية نموذج آخر يتغذى على حقائق وقوع العالم العربي والإسلامي تحت احتلالات ووصايات إمبراطوريات أوروبية، كبريطانيا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال وإيطاليا، ذات تركيبات سكانية مسيحية. ولكن لماذا يخلط المرء بين الاحتكاك الذي تفرضه حركة التاريخ، وبين صدامات الاختلاف الديني. إن مثل هذا الخلط يمكن أن يقودنا إلى مشاكل فكرية وسياسية يصعب الإفلات منها. والأدلة عديدة على أن حركة الاستعمار الأوروبي ربما كانت تتحاشى الاحتكاك بالإسلام، ديناً ونظاماً روحياً واجتماعياً. بل إن أية دراسة متعمقة لتاريخ الإمبراطورية البريطانية في الهند تعكس انحيازاً واضح المعالم من قبل الإدارة الإمبراطورية البريطانية للمسلمين الهنود على حساب غيرهم من السكان ذوي الأديان الأخرى. وقد كرس اللورد ماكولي Macaulay، برغم نظرته الدونية للحضارات الشرقية عامة، هذا الانحياز عندما وقف أمام الاختيار بين المسلمين وغيرهم (في مناسبة خلافية) داعياً إلى نصرة المسلمين لأنهم "أقرب إلى معتقداتنا"، بمعنى أنه اعتمد عقائد مثل التوحيد والإيمان بالآخرة وسواها من العقائد الدينية المتشابهة مع العقائد المسيحية كتبرير لذلك الانحياز. وتدل المدونات التاريخية للإمبراطوريات الأوروبية على أنها كانت تتحاشى أحياناً كثيرة الإساءة للإسلام في الأمم التي فرضت عليها الوصاية. وكان ضباط الاحتلال يسارعون دائماً إلى الاتصال بطبقة العلماء المسلمين من أجل تهدئة المخاوف الدينية وتجنب الاحتكاكات ذات الطابع الطائفي. ولذا لم تعتمد أهم حركات التحرر من الاستعمار الأوروبي على خطاب ديني وحيد الجانب. إن الجدل الذي استعر في العصر الذهبي للإمبراطورية البريطانية حول الإسلام كان مهماً للغاية. ويمكن تتبعه من خلال السجال الذي دار بين المستشرق رتشارد بيرتن Burton (وهو أفضل مترجم لألف ليلة وليلة) وبين التبشيريين. فقد دعا التبشيريون الإنجيليون إلى أن يسبق المبشرون جنود الاحتلال البريطاني في الأصقاع الأفريقية التي يتم احتلالها. وعلى نحو معاكس لذلك، دعا العلمانيون (ومنهم بيرتن نفسه) إلى أن يسبق الجندي المبشرين، خشية إثارة الحساسيات الدينية. وهذا ما حدث فعلاً، على رغم الخوف الذي كان يستشعره رجال الدين في بريطانيا وفي سواها من الدول الأوروبية حيال الانتشار السريع للإسلام في أفريقيا وجنوب شرقي آسيا، خاصة بين القبائل الوثنية. بيد أن علينا أن نتوقف عند حقيقة استبعاد التبشير الديني المسيحي من "وليمة الاستعمار" عبر القرنين التاسع عشر والعشرين. وأعتقد شخصياً أن الإدارات الإمبراطورية في باريس أو لندن لم تكن ترنو إلى استهداف الإسلام، ديناً ونظاماً اجتماعياً، ذلك أنها كانت تريد الهيمنة الاستعمارية والاقتصادية، وليس استهداف دين معين. والأدلة كثيرة على ذلك، ولكن أهمها كان قد قدمه المستعمر الأول قدوماً إلى شرقنا العربي الإسلامي، نابليون بونابرت، الذي سارع فور وصوله للقاهرة إلى الادعاء بأنه قد اعتنق الإسلام، واضعاً العمامة على رأسه ومتردداً على بعض الزوايا الصوفية هناك! وكان الجنرال الفرنسي في مصر على أساس مصالح باريس، وليس على أساس مصالح الفاتيكان الذي تهيمن عقائده الكاثوليكية على أكثرية الشعب الفرنسي. والشاهد في كل هذا أن البناء على افتراض وجود خصومة أو نزاع ديني إسلامي/ مسيحي قد يقودنا إلى معضلات خطيرة أخرى إذا ما وسعنا مداركنا، ومن أهمها معضلة طريقة التعامل مع الأقليات المسيحية الموجودة في العالم العربي الإسلامي. وفي المجمل فإن الصراعات التي جرت وتجري بين أقاليم العالم الإسلامي والجوار الغربي لم تكن في جوهرها دينية، بقدر ما كانت ذات طبيعة سياسية واقتصادية، ركبت موجة العصبيات الدينية والطائفية لخدمة أغراضها الخاصة. وهذا حسب المعطيات المعاصرة الأكثر دقة هو ما يجري اليوم، ذلك أن رأس المال، الباحث عن المكاسب المادية، يرنو إلى دفع العالم نحو غياهب الصراعات الدينية والطائفية من أجل ارتقائه قمة الهرم الكوني. محمد الدعمي كاتب وأكاديمي عراقي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "منبر الحرية"