بعد عشر جلسات عقدتها اللجنة الوزارية المكلفة بإعداد البيان الوزاري للحكومة اللبنانية، وبعد مناقشات مضنية تناولت كافة القضايا والعناوين والتفاصيل أحياناً، أقرت اللجنة البيان. ثم اجتمع مجلس الوزراء وأقره وتحفظ عدد من الوزراء على البند المتعلق بالمقاومة. وعدم تحفظ الوزراء الآخرين على بنود أخرى لا يعني بالتأكيد موافقتهم بالمطلق على ما ورد في البيان أو على تغييب بعض النقاط عنه. لكن البيان هو بيان التسوية الممكنة، لأنه بيان الحكومة الممكنة في الظروف التي يعيشها لبنان. والحكومة التي تضم ممثلي كافة الكتل النيابية والقوى السياسية الموجودة في البرلمان هي صورة مصغرة عنه. وبالتالي، كان السؤال لماذا سيمتد النقاش في المجلس النيابي لأيام ما دامت كل القوى أيدت البيان مع التحفظ المذكور؟ للأسف أقول وأنا عضو في البرلمان والحكومة لم يكن ثمة مستوى في النقاش السياسي أو في الأداء. رئيس الحكومة لعب دوراً أساسياً في إخراج البيان الوزاري التسوية، وتصرف بحكمة وهدوء وصبر ومسؤولية. أثناء المناقشات خرج نواب من كتلته ونواب من صفوف حلفائه لينتقدوا البيان وضموا أصواتهم إلى أصوات المتحفظين على بند المقاومة وطرحوا ملاحظات أخرى وأعادوا فتح ملفات وقضايا وفي النهاية أعطوا الثقة. وهذا أمر لا علاقة له بالديمقراطية إلا إذا توهم بعضنا أن الحياة الديمقراطية في التيارات والأحزاب السياسية والكتل النيابية تمارس إلى أبعد الحدود . وأخشى ما أخشاه أن يكون الأمر أبعد من تسجيل موقف سياسي آني عرضي في سياق المناقشات النيابية. وفي المقابل خرجت أصوات من صفوف الآخرين – المعارضة السابقة كما سماها الرئيس نبيه بري – لتطرح نقاطاً وتثير مسائل هي أيضاً جزء من السجال السياسي والخلافات في البلد. وصوتوا في النهاية للحكومة وأعطوها الثقة. وفي النتيجة كان طرح المسائل على منبر المجلس وأمام كاميرات التلفزة والنقل المباشر وكالعادة هادفاً إلى إسماع الأصوات للناس في المناطق، وتناول القضايا من المقاومة إلى إلغاء الطائفية السياسية إلى اتفاق الطائف والعلاقات مع سوريا إلى القضايا الاجتماعية هادفاً إلى التأكيد: أن هذا النائب أو ذاك كان سباقاً في طرح هذه المسألة أو تلك، وذلك في سياق مخاطبة عواطف وغرائز الناس أحياناً! ليس ثمة أسهل من الكلام والخطابات وتعميم البيانات وإصدار المواقف، والانفعالات ورفع الأصوات ... وليس ثمة أسهل من هذه الممارسات. لكن هل فكرّنا بنتائجها؟ هل ساهمت كل هذه النقاشات في العبور إلى مناخ الثقة أو إلى طريق الثقة كما دعا رئيس الحكومة دائماً. وأقول طريق الثقة بين اللبنانيين لأن إعادة بنائها يتطلب الكثير من الجهد. تشعر في المجلس وكأنك أمام حالة من الجمود. وإذا حصل تحرك فليس باتجاه ما نتمناه وما يعزز الثقة بين القوى السياسية والأمر نفسه سنراه في الحكومة، وهذا كله لا يحمل مؤشرات إيجابية ولا يحمل تطمينات للناس لا سيما وأن الحوار الحقيقي بين تلك القوى لا يسير على الوتيرة التي يجب أن يكون عليها ولا يتميز بالصراحة والدقة والحرص على الوصول إلى نتيجة. إنه التسابق على الناس، فأين التسابق والتنافس للناس؟ أين الخدمات والمسؤوليات ورفع المعاناة في الممارسات وليس في الخطابات؟ بدأنا بمعالجة أزمة السير الخانقة، كلفت قوى الأمن بتطبيق القوانين. غاب ضباط ومسؤولون عن الأرض. غابوا عن ممارسة صلاحياتهم وواجباتهم وتنفيذ أوامر رؤسائهم وتوجهات حكوماتهم. وخالف أمنيون آخرون القوانين والأصول والواجبات في التخفيف من حدة أزمة السير التي استمرت متفاقمة. حصلت محاسبة لكنها في نظري غير كافية. يجب تأكيد مبدأ المساءلة والمحاسبة وأن يطول كل الناس من أعلى الهرم إلى أسفله. نعم إذا لم نؤكد مبدأ مرجعية الدولة كحاضن للبنانيين ومصالحهم، ومبدأ عمل المؤسسات بانتظام، ومبدأ المراقبة والمحاسبة، فلن تحل أزمة في لبنان. لا أزمة الكهرباء ولا أزمة المياه ولا أزمة سلامة المرور والسير، ولا أزمة البطالة ولا أزمة الفساد ولا أزمة النظام كله، بل سيتفرع من كل هذه الأزمات وغيرها أزمات إضافية، وسيكون الانهيار على حساب كل اللبنانيين. آن الأوان لإقفال المحميات الطائفية والسياسية والمالية في الإدارة. فليس ثمة مسؤول يتجرأ على المخالفة وتجاوز النظام العام ومدّ اليد إلى المال العام، إذا لم يكن يشعر بشيء من الحماية العائلية أو الطائفية أو السياسية من هذا المرجع أو ذاك، وهذا يتطلب وجود رجال دولة بكل ما للكلمة من معنى يتمتعون بالصدقية والأخلاق والحصانة الأخلاقية قبل كل شيء، ليقدموا على اتخاذ القرارات والخطوات الشجاعة والجريئة في هذا الطريق الطويل الصعب والوعر. وأعتقد أن تجربة السنوات القليلة الماضية أثبتت للجميع مجدداً ولمن لم يكن قد انخرط في زواريب اللعبة الداخلية ومنطق التحكم والسيطرة أن ليس ثمة أحد في لبنان جهة كان أم فرداً أم حزباً أم تياراً بإمكانه أن يعالج مشاكل "ناسه" الأمنية والإدارية والمالية والخدماتية – مياه، كهرباء، صحة – بمفرده. بل أدرك الجميع ما أثبتته التجارب أن لا بديل عن الدولة. الدولة اللبنانية وحدها هي القادرة على ذلك وهي المسؤولة عن ذلك وبإمكاننا البدء من أكثر من مكان، إذا كانت لدينا صدقية، وإذا كان لدى كل منا انسجام بين ما يقوله على منبر مجلس النواب أو على الشاشات والمنابر الأخرى، وما يمارسه على أرض الواقع خصوصاً عندما يكون في موقع المسؤولية.