يا صاحب البسمة الأرق، الفكرة الملتحمة بالمبدأ، الكلمة المشبعة بالجرأة، كيف ننساك؟! ويا صاحب النضال المفكر، والفكر المناضل، والشعر المقاتل، كيف ننساك؟! لقد قرأت في إحدى "مدارات" أدونيس استخلاصا قادني إليك مباشرة وجعلني أتساءل معه: "من قال إن الموتى لا يتكلمون؟ إنهم لا يتوقفون عن الكلام، غير أنهم يتكلمون بأفواه الأحياء"، خاصة حين "تمضي حياتك في حفر طريق من أجل أن تسير عليه نحو ما تشاء وفجأة تكتشف أن الطريق انتهى، وأن خطواتك لا تزال في بداياتها"، ذلك أنك "مأخوذ بتعلم اللغات (النضالية) التي تخاف الألسنة أن تتهجاها"! لذلك كله، كانت قولتك المعسولة والمتكررة، المغموسة بالتفاؤل والإصرار: "لازم تزبط"! تلك القولة المفعمة بضوء التفاؤل الأبدي، الخارج من رحم ظلام التشاؤم النابع من شؤم أوضاع التهافت المنزلق على منحدر التفريط الشيطاني الواعي للمصالح الذاتية، أو غير الواعي لكن المنبعث من عقلية تسطيحية تبسيطية مغموسة بذاتية طاووسية! كثير من السياسيين سيأتي عليهم الدهر بالنسيان بعد وفاتهم، وقلة هم من ستذكرهم الأجيال حتى وإن لم يحصدوا في حيواتهم ثمرات نضالهم، ذلك أنهم رموز لا يمكن لأي ذاكرة حية أن تنساهم. وفي عميق وجداني أن من بين هؤلاء ثلة من أمثال "صخر حبش" (أبا نزار) الذين يتركون، بعد مماتهم، أثرا مقاربا لأثرهم في الحياة. فوالله لم يختلف على ذلك "الصخر البشري" اثنان عاقلان، مواطن أو سياسي، حزبي أو تنظيمي، بل إنه قد نال ما يستطيع نيله الإنسان من المحبة بما يقارب الإجماع، ثم تتوج ذلك كله بشهادات انتمائه الأصيل وفق مشاعر الغالبية الساحقة من الشعب والأمة. صخر حبش، الذي "كان" اسمه (يحيى حبش) لحظة ولد، هو أحد مؤسسي حركة "فتح" وعضو لجنتها المركزية حتى انعقاد المؤتمر العام للحركة في بيت لحم 2009، مثلما كان مسؤول مكتب الدراسات الفكرية للحركة، يرحل عن عمر يناهز 70 عاما. فقد ولد هذا "الصخر" الذائب في المشاعر الإنسانية الحقّة عام 1939 في "بيت دجن" قضاء يافا، ثم عاش -وعائلته- اللجوء بعد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين 1948. ولذكائه ودأبه، حصل على شهادة الماجستير في الهندسة الجيولوجية من جامعة أريزونا في الولايات المتحدة عام 1962، وعمل مسؤولا لسلطة المصادر الطبيعية في الأردن حتى التحق بصفوف حركة "فتح" حيث كان من المؤسسين الأوائل لها. ويعود الفضل لـ"أبي نزار" بإطلاق "مؤسسة الأشبال والزهرات" في عام 1968 حين كان عضو "لجنة إقليم الأردن"، وشارك في تأسيس إذاعة "صوت فلسطين" التي بدأت بثها من العاصمة الأردنية، وكتب القصائد والأناشيد التعبوية، كما كتب بعض الروايات، وصدر له عدد من الدواوين الشعرية. وفي لبنان الذي انتقل إليه بعد أحداث أيلول 1970، تقلد صخر حبش مواقع قيادية أبرزها منصب: "معتمد إقليم لبنان"، إضافة إلى كونه مساعدا للرئيس عرفات. كان "أبو نزار" عضوا في المجلس الثوري لحركة "فتح"، وانتخب في عام 1980 أمينا لسر ذلك المجلس. كما انتخب، في المؤتمر الخامس للحركة، عضوا في لجنتها المركزية، وتسلم "مفوضية الشؤون الفكرية والدراسات". وبذلك، أسهم "حبش"، بشكل فعال، في تعميق الحياة الثقافية في صفوف ومواقع حركة "فتح" خاصة، وفي الأوساط الفلسطينية والعربية عامة. وقد أصدر ذلك الباحث المتمكن، والمناضل المثابر، ورجل التنظيم المنضبط، التعاميم والدراسات، ونشر المعرفة، من خلال إصدار الكتب والكراريس التي أصبحت أساسية في أدبيات الحركة. ولطالما سعى أبو نزار ما وسعه الجهد لتخليد ذكرى الشهداء باعتبارهم "النموذج" الذي يجب أن يحتذى. ومما لا شك فيه الأثر الذي تركه استشهاد شقيقه الأصغر أحمد الذي كان من أبرز كوادر تنظيم "فتح" في الجامعات المصرية، وقد سقط شهيداً خلال اشتباك مسلح في مستعمرة "بتاح تكفا" التي أقامها الصهاينة على أراضي قرية "ملبس" الفلسطينية وأطلقوا عليها ذلك الاسم العبري الذي يعني بالعربية "بوابة الأمل"! ومن خلال موقعه القيادي الفتحاوي، وعضويته في كل من المجلس الوطني والمجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية، مثّل أبو نزار القوى الأخلاقية في الحركة والمنظمة، واتسم بالالتزام، وجسّد في سلوكه نموذجا للمناضل النزيه... والمثقف العضوي... والمفكر الثوري. ويسجل له كذلك قيامه بجهود كبيرة في مجال ترسيخ الوحدة الوطنية، وتعزيز التفاهم والتنسيق في إطار لجنة القوى الوطنية والإسلامية. ومن خلال ذلك، كان طبيعيا أن تربط صخر حبش علاقات مميزة مع القوى والأحزاب السياسية على امتداد الوطن العربي بعد أن مثل حركة "فتح" في مؤتمرات الأحزاب العربية والدولية، وظل مدافعا شجاعا عن المشروع الوطني، وعن الوحدة الوطنية الفلسطينية، والديمقراطية والحرية حتى الرمق الأخير من حياته. كان -رحمه الله- مثالا للعطاء والتضحية، متمسكا بالثوابت الوطنية والشرعية الفلسطينية. والحال كذلك، تربّت على يديه أجيال كثيرة في هذه المسيرة، فكان مثال القائد والمعلم، علما من أعلام فلسطين ومسيرتها التحررية، مدافعا صلبا عن "القرار الوطني الفلسطيني المستقل"، ومتمسكا بتقاليد الثوار المناضلين في كل مراحل حياته. واليوم، نحن على قناعة راسخة بأن الأجيال التي تربت وتعلمت من أبي نزار وكل إخوانه الشهداء، ستظل على عهده ووصاياه وممارساته في صدق الانتماء والالتزام بأهداف شعبنا العادلة، وعلى قاعدة "لازم تزبط"! حين تقرأ في أحد وجهي "العملة الوطنية" (يحيى حبش) تقرأ في الوجه المقابل اسم (صخر أبو نزار). وإذ نعنون مقالة ذكرى مرور الأربعين على رحيله بكلمتي: "يحيا... يحيى"، فإنما نزأر بحقيقة كامنة في "صخر ناعم" لا تجده سوى في شخص أبي نزار الذي يحيا فينا نحن الذين عرفناه فأحببناه باسميه المختلفين. فيا أيها الضوء المتلاشي، والساطع في آن معا، نودعك اليوم قائلين: سلام عليك يوم ولدت، ويوم ناضلت مبكرا، ويوم تبعث حيا مرتين: يوم انتصار العدالة في فلسطين، ويوم يبعث الأنام.