"ليس في كل مرة تسلم الجرة"، قول عربي مأثور قد لا يكون في التراث الفارسي مثله. لكن الأرجح أن في هذا التراث ما يدل عليه من قريب أو بعيد. فهو يعبر عن حكمة شائعة أنتجتها تراكمات الخبرة الإنسانية، ومن المنطقي أن نجد معناه شائعاً في مختلف الثقافات. فهذا معنى ذو طابع إنساني مشترك عميق وبسيط في آن معاً من حيث دلالته على أهمية استخلاص الدروس من التجارب وعدم تكرار الأفعال التي قد تؤدي إلى عواقب وخيمة في كل مرة. غير أن موقف إيران تجاه مشروع اتفاق فيينا الذي قدمته الوكالة الدولية للطاقة الذرية سعياً لإنهاء لمشكلة تخصيب اليورانيوم الموجود بحوزتها، يدل على أن طهران ربما تظن أنه كل مرة ستسلم الجرة. فعندما يبدو الشعور بالاطمئنان الشديد مفارقاً لواقع يدعو إلى القلق، قد يكون هذا ناجماً عن عدم إحاطة بمعطيات أساسية. وفي المعطيات المتعلقة بقضية برنامج إيران النووي الآن ما يمكن أن يؤدي إلى عواقب لا تقف عند حد فرض عقوبات جديدة عليها، رغم عدم وجود إجماع بعد بين القوى الكبرى على أن وقت اللجوء إلى مثل هذه العقوبات قد حان. ومع ذلك فرغم أن روسيا والصين لم تقتنعا بعد بوجوب اللجوء إلى خيار العقوبات بشكل فوري، فقد حدث تغير في موقف كل منهما يجعل هذا الخيار ممكناً بعد أسابيع، فيما تفضل دول أخرى مثل فرنسا وألمانيا تفعيله اليوم وليس غداً. فالخلاف، إذن، ليس على مبدأ العقوبات وإنما على توقيتها. فثمة توافق يبدو الآن قيد التشكل بين الدول الست الكبرى المنخرطة في موضوع إيران النووي على أن الوقت ينفد. وقد ظهر هذا التوافق في اللقاء الذي جمع الرئيسين أوباما وميدفيديف على هامش قمة منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادي (أيبك) في سنغافورة منتصف الشهر الماضي، كما لم يظهر من قبل. وعندما وصل الرئيس الأميركي إلى بكين بعدها بيومين، وجد موقفا صينياً مريحاً يدل على أن بكين لن تعارض تشديد العقوبات على إيران إذا لم تنجح المحاولة الجارية في تحقيق حل مؤقت لمشكلة تخصيب اليورانيوم. وقبل أن يعود أوباما إلى واشنطن من جولته الآسيوية، كانت موسكو قد قررت تأجيل بدء تشغيل مفاعل محطة بوشهر للطاقة النووية، بخلاف ما كان مقررا في فبراير الماضي حين انتهت عملية نقل الوقود النووي إلى هذا المفاعل. ومن الناحية الفنية يكون المفاعل الجديد جاهزاً للتشغيل بعد نحو ستة أشهر على إتمام نقل الوقود إليه، وهي الفترة اللازمة لعملية الاختبار الفني للتجهيزات. ورغم أن هذه الإشارات تؤدي إلى قلق المجتمع الدولي ليست جديدة من حيث مضمونها، وأن إيران تعودت على مثلها، فقد يكون الأمر مختلفاً هذه المرة لأن مشروع فيينا خلق معطى جديداً من النوع الذي لابد أن ينتهي إلى نتيجة محددة. ففي هذا المشروع عرض لإيران يعتبر الأكثر مرونة منذ بدء أزمة برنامجها النووي. يقدم هذا العرض حلاً مؤقتاً للمشكلة الأكثر إلحاحا في هذه الأزمة وهي تخصيب اليورانيوم. وهو حل وسطي فعلاً، ولكنه يبدو في محصلته أقرب إلى موقف إيران منه إلى تفضيلات الدول الغربية. فالتنازل الذي تعرضه هذه الدول أكبر من ذلك المطلوب من إيران أن تقدمه، لأنه يطرح حلاً تقنياً لا يلزمها بالتخلي عما تعتبره "حقها المقدس" في التخصيب. فهو لا يفرض عليها إلغاء برنامجها لهذا التخصيب وإنما تجميده، ولا يلزمها بالتخلص من آلات الطرد المركزي الموجودة لديها. لذلك يبدو الحل المؤقت في مشروع فيينا إقراراً غير مباشر من الدول الغربية ببرنامج إيران النووي في مجمله مقابل قبولها وضع سقف لهذا البرنامج يضمن عدم تحويله نحو غايات عسكرية. لكن أياً تكون فاعلية هذه المراقبة، فهي لا تحقق الهدف المرجو منها إلا في مدى قصير أو متوسط على الأكثر. لذلك يبدو هذا العرض هو الأفضل الذي يُقدم إلى إيران منذ بدء أزمة برنامجها النووي، رغم أنه لا يفي بطموحها لسحب ملف هذه الأزمة من مجلس الأمن والتمهيد لاتفاق أوسع أو صفقة شاملة تضمن لها إقراراً بدور متميز لها في الشرق الأوسط. لكن العقلانية النسبية التي تميزت بها إيران من قبل، تبدو الآن في تراجع لأسباب أهمها الأزمة الداخلية ، بما رافقها من مزايدات جعلت أي موقف عقلاني يبدو مفَّرطاً ومتخاذلاً. ومن ذلك تصريح الرئيس نجاد نهاية الشهر الماضي أن لدى حكومته خططا لبناء عشر محطات جديدة لتخصيب اليورانيوم. فقد انفلت سباق المزايدات الذي ظهرت ملامحه منذ أن تسلم الوفد الإيراني مشروع فيينا. لذلك ربما يكون رد فعل الدول الكبرى حين تنتهي المهلة التي حددتها واشنطن في آخر الشهر الجاري، أقوى من ذي قبل بمقدار ما كان العرض الذي قدمته إلى إيران غير مسبوق في مرونته، الأمر الذي قد يقود إلى عقوبات أشد من النوع الذي كان صعباً تمريره في ظل حرص موسكو وبكين على الموازنة بين علاقاتهما مع الغرب ومصالحهما مع إيران. فقد أصبح موقف روسيا بصفة خاصة حرجاً على نحو لا سابق له، خصوصاً وأنها هي صاحبة الفكرة الأساسية في العرض المتضمن في مشروع فيينا مثلما هي الطرف الرئيسي في تنفيذها. غير أن تداعيات الموقف الإيراني الراهن قد لا تقف عند هذا الحد. فخبرة عقوبات الأمم المتحدة تدل على ضعف فاعليتها باستثناءات نادرة. لذلك قد لا يكون فرض عقوبات جديدة مرضياً لإسرائيل التي قد تجد في رفض إيران عرضا بالغ المرونة فرصة لخيارها العسكري الذي لم تنجح بعد في إقناع الولايات المتحدة به. وربما يكون هذا الخيار مخرجاً لحكومة نتنياهو من مأزق الخلاف مع إدارة أوباما على موضوع الاستيطان. وقد تجد في التوافق الدولي على إدانة رفض إيران عرضاً شديد المرونة، الأجواءَ التي تنتظرها للإقدام على ضربة ضد إيران. وفي كل الأحوال قد يتبين أنه ليس في كل مرة تسلم الجرة. Classifications