يدعو بعض الناس للعودة إلى عقد الثمانينيات من القرن الماضي، كأنّ الأمر كُن فيكون، عُد فيعود. واختيار تلك الفترة لم يأتِ اعتباطاً، وإنما لأنها الفترة الوسط بين عصر ما قبل النفط، أي الزمن الجميل والشاق والخامل والهادئ، حيث التنقل على ظهور الجمال والحمير، والعيش في خيام وعريش، والدخل شحيح ما بين غوص وصيد ورعي وزراعة وشيء من التجارة. وبين عصر الإنترنت الحالي، أي الزمن الرديء والمريح والنشط والمتوتر، حيث السيارات الفارهة والفلل الكبيرة والأبراج الشاهقة والمجمعات السكنية الضخمة، والدخل الوفير والسريع. وبينما فترة الثمانينيات كانت الوسط بين الفترتين، فلا الناس تشقى في خيام ولا تُباعد بينها الفلل الفخمة، وإنما يعيشون مترابطين متآلفين في بيوت شعبية ضمن "الفرجان". ولا يتنقلون على ظهور الحمير ولا يطيرون بالسيارات الصاروخية. ولا يتعرضون لخطر الموت في سبيل لقمة العيش. والوضع المعيشي تحسّن في فترة الثمانينيات لكن بلا غلاء معيشي عاصف. وتطورت البلاد وازدهرت لكن من دون أن تكون محاطة ببحر من الأجانب. وتوفرت طرق المواصلات لكن من دون ازدحام مروري وضحايا إسفلت. واستبدلت المدارس الحكومية بالكتاتيب والفصول الدراسية الترابية، وأنشئت الجامعات والمعاهد لكن من دون أن يكون هناك أي اختلاط أو مدارس خاصة أو مدارس الغد أو الخبراء الأجانب. وارتفع متوسط عمر الفرد وأصبحت البلاد واحة للأمن والأمان لكن لم تكن هناك جرائم مروّعة ولا تفكك أسري ولا ظواهر دخيلة ولا هم يحزنون. ويشبّه المفكر العراقي علي الوردي هذا النمط من التفكير، أو الحلم بالعودة المستحيلة، بأنه كمن يشتري البطيخ، فالخيار بيده، والبطيخ المختلف ألوانه أمامه، ويقول: "إن الحضارة جهاز مترابط لا يمكن تجزئته أو فصل أعضائه بعضها عن بعض. فالحضارة حين ترد تأتي بحسناتها وسيئاتها. وليس في الإمكان وضع رقيب على الحدود يختار لنا منها الحسن ويطرد السيئ، ومعنى هذا أنها تيار جارف لا يمكن الوقوف في وجهه". ثم يصف أفراد المجتمع النشط بأنهم "يسيرون على عجل، فإذا سألتهم: إلى أين؟ همهموا بكلمات غامضة واستمروا في سيرهم مسرعين". بينما أفراد المجتمع الراكد "يسيرون الهوينى ويشعرون بأن الأيام طويلة فلا داعي للهلع فيها. همُّ أحدهم أن يصغي إلى قصص الأولين وأساطيرهم مرة بعد مرة وهو سعيد يشعر أنه سائر في سبيل الخلود الذي لا عناء فيه". ويضع الوردي الإنسان أمام طريقين متعاكسين يستحيل أن يسير فيهما معاً: "طريق الطمأنينة والركود، أو طريق القلق والتطور". ويصف من يعتقدون أن المجتمع قادر على أن يكون "مطمئناً مؤمناً متمسكاً بالتقاليد القديمة من جهة، وأن يكون متطوراً يسير في سبيل الحضارة النامية من الجهة الأخرى"، بأن لهم "خيالا غريبا لا ينبعث إلا في أذهان أصحاب البرج العاجي الذين يغفلون عن حقيقة المجتمع الذي يعيشون فيه". ويرسم الوردي الطريق لمن يرفض هذا التطوّر والتحضّر والتمدّن، بأن "يقعد في بيته حتى يصبح محطّ سخرية الناس، بعد أن تطلب امرأته الطلاق ويهجره الأولاد ويزوروه في الأعياد للسلام على أبيهم الزاهد". ويختم بالقول: "ولست أريد بكتابي (مهزلة العقل البشري) أن أمجّد الحضارة الغربية أو أدعو إليها، إنما قصدي أن أقول: إنه لا بد مما ليس منه بُدّ".