شهدت العاصمة الدنماركية كوبنهاجن بداية هذا الأسبوع فعاليات مؤتمر الأمم المتحدة لمناقشة قضية التغيرات المناخية وظاهرة الاحتباس الحراري، في محاولة لرأب الصدع بين التكتلات الاقتصادية المختلفة في العالم، وخصوصاً بين الدول الصناعية والدول النامية، حول أفضل السبل للتعامل مع أكبر خطر يهدد مستقبل الجنس البشري حالياً. فخلال العقود الخمسة الأخيرة أدت النشاطات البشرية الاقتصادية والصناعية، إلى إطلاق كميات كبيرة من غاز ثاني أكسيد الكربون، وغيره من غازات "البيت الزجاجي"، مما نتج عنه تغير جوهري في نمط المناخ العالمي. وهو ما يعتبر استمراراً لاتجاه متصاعد منذ فترة، أدى إلى زيادة في تركيز غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي بنسبة ثلاثين في المئة، مقارنة مع تركيزه قبل بدء الثورة الصناعية. وهذه النشاطات وما نتج عنها من تغيرات مناخية، وخصوصاً على صعيد احتباس الحرارة في طبقات الجو السفلى، حملت معها مخاطر صحية متنوعة، مثل التسبب بشكل مباشر في وفيات بشرية من جراء ارتفاع درجات الحرارة إلى مستويات قياسية، أو لتغير في نمط انتشار وطبيعة العديد من الأمراض المعدية. فمن المناطق الاستوائية إلى القطبين الشمالي والجنوبي، يحمل المناخ والطقس في طياتهما تأثيرات -مباشرة أو غير مباشرة- شديدة الوقع على الحياة الإنسانية برمتها. وهو الأثر الذي يتضاعف في حالات الظواهر المناخية والطقسية الشديدة، مثل الأمطار الغزيرة وما ينتج عنها من فيضانات، أو مثل العواصف والأعاصير المدمرة، كإعصار "كاترينا" الذي دمر أجزاء كبيرة من ولاية "نيوأورليانز" بالولايات المتحدة في أغسطس عام 2005 . ولا حاجة للتذكير بأن هذه الكوارث المناخية تشكل خطراً داهماً على المجتمعات البشرية المتواجدة في نطاق وقوعها، حيث تتسبب في عدد كبير من الوفيات، وفي تدمير الممتلكات ومكونات البنية التحتية، وفقدان سبل المعيشة والرزق للكثيرين. وهو ما يتضح من حقيقة أن عقد التسعينيات وحده، شهد وفاة أكثر من 600 ألف شخص بسبب كوارث مناخية، الغالبية العظمى منها كانت في الدول النامية. وبخلاف الكوارث واسعة النطاق، تتسبب ظواهر مناخية أقل حدة مثل التغير الشديد في درجات الحرارة، حتى وإن كان قصير الأجل، في تأثيرات سلبية شديدة الوقع على صحة الكائن البشري، تؤدي في النهاية إلى ارتفاع معدلات الوفاة من جراء الأمراض القلبية والتنفسية. وهي الحقيقة التي اتضحت من نتائج الدراسات التي أظهرت زيادة في عدد الوفيات خلال صيف عام 2003، بمقدار 70 ألف شخص، مقارنة مع عدد الوفيات في الفترة الزمنية نفسها خلال الأعوام الأخرى، من جراء موجة الحر الشديد التي رزحت تحت وطأتها العديد من دول أوروبا الغربية حينها. وهذا التغير في درجة الحرارة، إما أن يكون ارتفاعاً مسبباً لإجهاد حراري ونفوق، أو أن يكون في شكل موجات برد وصقيع، تحصد هي الأخرى أرواح الكثيرين بسبب الانخفاض الحاد في درجة حرارة الجسم بشكل يصعب معه قيام الأجهزة الحيوية بوظائفها الطبيعية. وإن كان ارتفاع درجة الحرارة بالتحديد يحمل معه مشكلة خاصة، هي زيادة تركيز ملوثات الهواء، وزيادة تركيز مسببات الحساسية في الجو، مما يؤدي بدوره إلى زيادة معدلات الإصابة بالأزمة الشعبية أو الربو، وزيادة عدد وحدة النوبات بين من يعانون من هذا المرض أساساً. وهو ما يجعل عدد الثلاثمائة مليون طفل وبالغ المصابين بالأزمة الشعبية حالياً، مرشحاً للزيادة بشكل واضح خلال السنوات والعقود القادمة بسبب التغيرات المناخية، وخصوصاً ارتفاع درجة حرارة المناخ. وإذا ما وضعنا في الاعتبار أن أكثر من نصف البشر يقطنون تجمعات أو مدناً ساحلية لا تبعد عن الشواطئ البحرية أكثر من مسافة ستين كيلومتراً، فسندرك بسهولة أن خطر ارتفاع مستوى سطح البحر بسبب التغيرات المناخية، وما قد ينتج عنه من فيضانات ساحلية وإغراق للمدن والمناطق المنخفضة بقرب السواحل، يشكل تهديداً ربما لم يعرف الجنس البشري مثيلا له من قبل، في حجمه وفي تأثيراته المدمرة. فوقوع مثل تلك الفيضانات، سيؤدي إلى أعداد كبيرة من الوفيات والإصابات بشكل مباشر، وسيزيد أيضاً بشكل هائل من معدلات انتشار الأمراض المعدية التي تنتقل عن طريق الماء، وسيؤدي في النهاية إلى نزوح سكان ومجتمعات تلك المناطق والمدن إلى مناطق ومدن أخرى داخلية، مما قد ينتج عنه توتر ونزاعات مسلحة مع السكان الأصليين لتلك المدن والمناطق الداخلية. وبخلاف الفيضانات، سواء الناتجة عن الأمطار الغزيرة، أو عن ارتفاع مستوى سطح البحر، يشكل الجفاف الناتج عن عدم استقرار معدلات ومناطق سقوط الأمطار خطراً جارفاً هو الآخر، على صعيد توفر المياه العذبة الضرورية للحياة البشرية، وبقية النشاطات الإنسانية. وخصوصاً في ظل كون شح المياه، أو ما يعرف أحياناً بالفقر المائي، يمس بالفعل حالياً حياة أربعين في المئة من أفراد الجنس البشري، أو أربعة من كل عشرة أشخاص. ومثل هذا الشح أو الفقر المائي، من وجهة النظر الطبية، يؤدي بالتبعية إلى مشاكل صحية متنوعة، بداية من الأمراض المنقولة عن طريق الماء بسبب اضطرار السكان للاعتماد على مصادر مياه غير نظيفة، مثل الإسهال الذي يقتل بالفعل حالياً 2.2 مليون شخص سنوياً، أو التراكوما التي تسبب قتامة القرنية وفقدان البصر في النهاية. ومن البديهي أيضاً أن شح المياه العذبة سيؤدي إلى أوبئة من سوء التغذية الحاد، ومن المجاعات واسعة النطاق، بسبب نقص الناتج الزراعي ونفوق أعداد كبيرة من الماشية. د. أكمل عبدالحكيم