في زيارة صديق لي، وكان الوقت جمعة، قلت له: عفوا عليّ تدارك الصلاة! بقي في مكانه ولم أشدّ عليه. بعد عودتي قلت له؛ كأنك لا تصلي الجمعة؟ قال: في قناعتي هي سياسية، ولا تحتاج عناء الاجتماع، لأنها فرغت من المعنى، فهي مسخرة في ركاب الطغيان. هذا المفهوم قرأته عند كثير من المفكرين؛ مثل محمد إقبال وصادق النيهوم وفاطمة المرنيسي. والكل يصب في مفهوم واحد؛ هو أن صلاة الجمعة تحولت إلى طقس يؤدي دور الدعاء. وخطبت يوما في الجولان وطلبوا مني أن أدعو لرئيس الجمهورية فحضرت الدعاء على الشكل التالي: اللهم يا رب ألهم رئيس الجمهورية أن يطلق حرية الصحافة، ويعمم التعددية الحزبية، ويفسح للمظاهرات أن تعبر عن ضمير الأمة، وأن تكون الانتخابات بدون تزوير... آمين يا رب العالمين! نفس الآلية في تفريغ الشعارات العملاقة انتقلت إلى الحج أيضا؛ فقد تحولت شعائره إلى طقوس، و قد يدهس الناس بعضهم بعضا في رمي الجمرات أو يختنقوا أثناء المرور في الأنفاق. والحج موسم سنوي لتعميم مفاهيم السلام في العالم، بدءاً من الوشاح الأبيض والطواف، وعدم قتل الطير، إلى عدم الرفث والجدال والفسوق، وإفساح المجال لكل البشر في رؤية هذه الظاهرة الإنسانية، فكل آية جاءت في الحج كانت دعوة للناس أن يطوفوا بالبيت العتيق. وليست تظاهرة الحج هي الوحيدة، بل حتى الصلوات اليومية الخمس تحولت هي أيضا إلى طقوس، يصطف فيها المسلمون بجنب بعضهم، فإذا خرجوا منها علا بعضهم على بعض، ولم يصطفوا في نظام، أو يحترموا إشارات المرور، وتطاحنوا في قيادة السيارات، ونقلت الجثث إلى البرادات، مما يعني أن صلاة كثير منا اليوم فقدت روحيتها ووظيفتها الحقيقية. ويحضرني مثال مفيد لتوضيح وظيفة العبادات والطقوس الروحية وأثرها في الحياة، وهو العلاقة بين حزام المحرك والدينمو والبطارية، فالحزام يدور، وينقل الطاقة من الدينمو؛ فتخزن في البطارية؛ فهذه الحركة الثلاثية بين دوران الحزام، وشحن الدينمو، وخزن البطارية، يشبهها دوران الطقوس، وشحن الروح بالطاقة اليومية. لكن الصلوات في وقتنا الحالي تحولت إلى طقوس، وتحولت صلوات الجمعة إلى منبر سياسي. ومن يمسك خطبة الجمعة واحد من ثلاثة؛ فهو إما واعظ، أو متشدد يدعو بالهلاك على تسعة أعشار الجنس البشري، أو فقيه نائم في استراحة عصر المماليك. وفي قناعتي أن مؤشر النهوض في الأمة، هو تغير شكل الطقوس من حركة إلى عبادة، وعندئذ ستؤدي دورا في اليقظة؛ فوجب أن لا يستولي على خطبة الجمعة اتجاه أو تيار، وأن تدخل الديمقراطية فناء المسجد، لمناقشة مشاكل كل حي، وليس الحديث عن الحور العين والغلمان وفواكه الجنة ورؤية الله. وما أقوله هنا قد يكون سابقاً لوقته، وإلى أن يأتي الموعد سيظل العالم الإسلامي مشلولا، وعبادات المسلمين طقوسا، وحزام السيارة يدور مجنونا في فراغ، والحج موسما لرجم شيطان معشش بيننا منذ أمد بعيد! إن هذه الكتلة الهائلة من البشر، والتي يزيد حجمها عن مليار نسمة، لازال يسرح بين أظهر أهلها شيطان مريد بقرون وأظلاف!