عبث بعض من الشباب السعودي بأنفسهم وأزهقوا أرواحهم، منذ أعوام عديدة مضت ولا زالوا على هذا الخط بعد تجنيد أنفسهم لصالح أجندات سياسية لا ترى فيهم إلا مجرد أرقام في سجلاتها السرية السوداء في مناطق عدة من العالم، ثم تحولوا ليعبثوا بأمن بلادهم وترويع مواطنيهم والعبث بأرواحهم، وما زالوا في غيهم مع الأسف الشديد، وقاموا بكل تلك الأعمال انطلاقاً من واجب ديني ومفهوم اجتماعي يجسد روح التعاون وحب العمل التطوعي، لكنه طبق بطرق خاطئة. جل من شارك في الأعمال المسلحة من الشباب السعودي خارج السعودية قبل تحولهم إلى الداخل، ذهبوا تحت ذريعة الأعمال التطوعية في الجمعيات الخيرية النشطة حينها إلى كل بقعة نزاع على جغرافيا العالم. يجهل الشباب السعودي ثقافة التطوع، التي لا يعرفها إلا قلة منهم، وهذا ما زاد مخاطر عملهم التطوعي في الخارج، حيث بعدهم عن أعين الرقيب سواء من المجتمع أو المؤسسات الرسمية ذات العلاقة، ما جعلهم لقمة سائغة لغاسلي الأدمغة لاختطافهم فكرياً وجعلهم بيادق على رقعة شطرنج غامضة المكنون، وان استخدمت أساليب واضحة الملامح، لكنها تجعلهم لا يعرفون منها سوى لغة واحدة هي التفجير والدماء والأشلاء. عرفت أشخاص في ريعان الشباب حين غادروا منازل ذويهم بنية صادقة في العمل التطوعي، وآخر الأنباء التي وردت كشفت عن مصيرهم القاسي الذي آلو إليه في معتقلات ذكرت بسوء الصيت، لا يرافقهم فيها إلا سجانوهم وصوت الزنازين حين يفتحها جلادوهم عليهم صباح مساء، أو قبور دفنوا فيها بشكل جماعي بعد قتلهم. التقيت بعدد ليس قليل من العائدين من المعتقلات خارج السعودية، ومن بينهم مقعد على الكرسي المتحرك الذي استخدمه بعد تعطل أكثر من نصف جسمه، وحين سألته، هل ذهب إلى الخارج بهذه الإعاقة الكبيرة؟ أجابني شقيقه الذي كان في استقباله مع ذويه في مكان خصص لمن هم في وضعهم، أنه وقع على مؤخرة رأسه في سجنه، وارتطم اثر سقوطه بالقضبان الحديدية لإحدى الزنازين، ما أنتج هذه الإعاقة المستديمة. كما التقيت آباء مكلومين يبحثون عن جديد الأخبار مع رمقهم بأعين زائغة لكل قادم إليهم، لا تسمع منهم إلا الأنين حزناً على فراق الأبناء، ومنهم من قابلته متصدراً مجلس العزاء بعد ورود خبر نهاية حياة ابنه يعض أصابعه ندماً على سويعات غفلة منه ضاع نتيجتها أحد فلذات كبده؛ لكن مفاجأتي تأتي عندما أقابل من يرفض العزاء، ويطلب التهنئة بفراق ابنه!، حينها أتيقن أن الابن نشأ في بيئة أسرية لا تعي إلا ثقافة الموت، وترفض ثقافة الحياة!؛ وجميع من سبق ذكرهم ذهبوا إلى الخارج في بادئ الأمر بحجة العمل التطوعي في الجمعيات الخيرية، بينهم الصادق حتماً، لكنه يُبرمج بطرق عدة ليتم السيطرة عليه وتجنيده للعمل الانتحاري، ومنهم من يتذرع بالعمل التطوعي ويبطن نيته القائمة على صناعة القتل بالمشاركة المسلحة وإراقة الدم. لم يعمل الشباب السعودي داخل حدود بلاده في أعمال تطوعية إلا في حالات قليلة جداً تنم عن عدم وعي كاف بثقافة هذا العمل وآلياته المتبعة، ولا أعمم النفي، ولكن معظمهم دائماً تتجه أنظارهم خارج الحدود كلما أرادوا القيام بأعمال تطوعية. إن العمل التطوعي ينبع من طاقات مجتمعية في أطر مؤسساتية، يغلب عليها الطابع الفردي في المجتمع السعودي، وهي سمة وفخر ومؤشر تحضر لكل مجتمع يؤمن بمبادئه وقيمه ومسلماته الدينية والدنيوية، إن نفذ هذا العمل باسم الوطن في إطار مؤسساتي أهلي وخيري سواء في داخل الحدود أو خارجها. سرني كثيراً خبر قرأته يوم السبت الماضي فحواه أن شباباً وشابات يقومون بأعمال تطوعية في مدينة جدة غرب السعودية بلغوا الـ1500 متطوع يقدمون الخدمة لمتضرري السيول التي نتجت عنها كارثة بشرية ومادية كبيرة، ورأيت أن هذه الخطوة سوف توَلد ثقافة في العمل التطوعي عند كل من زاول هذا العمل، أو من استفاد منه، وستتبعها أعمال أخرى مماثله، أو أكثر نضجاً من هذه الخطوة بحكم وجود خبرة. لا تتكرر مثل هذه المشاهد في السعودية سوى في مواسم الحج فقط من قبل فرق الكشافة الذين يرشدون الحجيج التائهين عن دروب مخيماتهم، ويقدمون العون في أمور أخرى بشكل محدود جداً، وكم يسرني لو رأيت متطوعاً يقف على إشارة المرور لتقديم العون لكبار السن ومساعدتهم في تجاوز الشارع، أو المساهمة في تنظيم حركة السير بعد اختناقها، أو تقديم خدمات مجتمعية أخرى بمبادرات تطوعية مؤسساتية دون الحاجة لوقوع كارثة لكي نرى مثل هذه الأعمال. المؤسسات التطوعية يجب أن تعمل وتؤهل العاملين فيها على تلمس حاجات المجتمع، وسد ثغراته وعوز أفراده قبل وقوع الأزمة، وألا تنتظر العمل في الأزمات فقط كما يحدث الآن في مدينة جدة. للعمل التطوعي جوانب متعددة تشمل كافة مجالات الحياة تصب في خدمة المجتمع سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. لا أقف ضد العمل التطوعي خارج حدود البلد، لكنه ينبغي أن يخضع المُريد لهذا العمل إلى تقديم خدمات تطوعية في الداخل أولًا، وبعد تراكم خبراته في العمل التطوعي وحصوله على تقييم جيد من قبل مؤسسات متخصصة، ونضوج أفكاره مع تقدمه في السن، يسمح له بالعمل في الخارج ضمن إطار مدروس بعناية يشمل ضوابط حازمة تقوم بالإشراف عليها مؤسسات وطنية رسمية أو أهلية.