تتأسس النظم الديمقراطية في عالم اليوم على تداول سلمي للسلطة، مجتمع الحريات والحقوق، والفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وبذلك يأتي مبدأ استقلال القضاء متلازماً للنظام الديمقراطي ومكملا لمجتمع الحقوق والحريات، إذ ينطوي مبدأ فصل السلطات على أهمية كبرى من ناحية عدم التداخل في الاختصاصات والصلاحيات فلا يجوز للسلطة التنفيذية التدخل في مهام وصلاحيات السلطة القضائية بالضغط أو التأثير على القضاة أو بالامتناع عن تنفيذ الأحكام أو تعطيل تنفيذها، وبالتالي تعطيل سير العدالة. وكذلك هو الحال بالنسبة للسلطة التشريعية فلا تدخل ولا تداخل في الصلاحيات. وإلى جانب الفصل بين السلطات الثلاث يأتي التكامل في الأدوار، فالسلطة القضائية بحاجة للسلطة التنفيذية لتنفيذ الأحكام، وهي كذلك بحاجة لسلطة تشريعية تعدل في القوانين وتطورها وهكذا. لكن يظل الفصل التام فعل نظريا في معظم الأحوال، على رغم اشتمال غالبية الدساتير على مبدأ الفصل بين السلطات واستقلالية القضاء. ويتطلب إصلاح القضاء وضمان استقلاليته؛ تعزيز الضمانات الدستورية من ناحية وترسيخ الممارسات الهادفة إلى ضمان استقلالية القضاة في إصدار الأحكام دون وجود ضغوطات مباشرة أو غير مباشرة، مادية أو معنوية، من شأنها عرقلة سير العدالة. وتتعزز هذه الاستقلالية باختيار قضاة ذوي كفاءات تعليمية تدعمها خبرة عملية بالتوافق مع سلطة حقيقية تتجاوز الصلاحيات الشكلية بحيث يتعزز مركز القضاء كسلطة مساوية للسلطة التنفيذية أو التشريعية، كل ذلك مع وجود ضمانات حقيقية لحماية القضاة من تدخل بقية السلطات في سير المحاكمات أو في الأحكام الصادرة أو في توظيف القضاة وعزلهم وترقيتهم، مع التأكيد على وجود جهة مستقلة تقوم بأعمال اختيار القضاة وترقيتهم على أساس الكفاءة والعلم. وإضافة إلى كل ذلك يتأثر استقلال القضاء بعدم تنفيذ الأحكام. صحيح أن التنفيذ لا يدخل في اختصاص القضاء، لكن عدم تنفيذ السلطة التنفيذية لطلبات المحكمة وأحكامها التي أصبحت واجبة التنفيذ من شأنه أن يعرقل سير العدالة، ويحط من احترام استقلال القضاء. تقليدياً تمارس السلطة التنفيذية في غالبية النظم اللاديمقراطية ضغوطات وتأثيرات على السلطة القضائية خاصة في القضايا السياسية أو التي تصنف كقضايا سياسية، أو المرتبطة بحرية الرأي أو حتى تلك المرتبطة بأشخاص ذوي نفوذ سياسي أو اقتصادي، ولذا عد استقلال القضاء عنواناً رئيسياً لحركات الإصلاح والتغيير السياسي في العديد من الدول العربية. وفي غالبية النظم الديمقراطية كالولايات المتحدة وبريطانيا يتم ضمان استقلالية القضاء من خلال إبقاء القضاة لمدد طويلة، وأحياناً مدى الحياة، في مناصبهم، وجعل إزاحتهم من مناصبهم أمراً صعباً للحد أو لتقليل التأثير السياسي إلى أدنى حد ممكن، بحيث يأتي السياسيون ويذهبون بينما يبقى القضاة في مناصبهم. إن تطوير مفهوم استقلال القضاء يرتكز على ترسيخ المبادئ القانونية الحامية لحقوق الانسان، وفي ذات الوقت تثبيت قواعد السلوك القضائي بتحقيق العدالة والمساواة أمام القانون، وتطبيق سيادة القانون، وكذلك العمل على ترسيخ ثقافة استقلال القضاء لدى سلك القضاة ولدى المجتمع على حد سواء. وقد دلت التجارب على أن قدرة القضاء المستقل على اتّخاذ قراراتٍ جريئة تحقق العدالة للمواطنين، وتضبط أداء السلطة التنفيذية عند تعديها على حقوق الأفراد والجماعات، من شأنه ترسيخ الثقة بالقانون وتعزيز دولة المؤسسات والعدالة الاجتماعية وحماية الحريات وسيادة مجتمع القانون وهو الغاية. يحكى أن الإسكندر المقدوني سأل حكماء بابل فقال: أيهما أبلغ عندكم الشجاعة أم العدل، فقالوا: إذا استعملنا العدل استغنينا عن الشجاعة. عائشة المري