علق "جون زيجلر" عالم الاجتماع السويسري المشهور على الاستفتاء الذي جرى في الأسبوع المنصرم في بلاده حول منع مآذن المساجد بالقول:"إنه تصويت عنصري يشكل فضيحة لسويسرا".واعتبر زيجلر الذي كان من قبل مفوضاً للأمم المتحدة لشؤون الغذاء أن الأمر يتعلق هنا بتشويه وذم مجموعة كاملة من منطلق التمييز الديني، في ما يشكل نمطا من "المنطق النازي" يستثير الاستهجان في المجتمعات الديمقراطية. وإلى نفس الرأي، ذهب "نافي بلاي" المفوض السامي للأمم المتحدة حول حقوق الإنسان الذي اعتبر أن تحريم المآذن يشكل انتهاكاً خطيراً للقانون الدولي. ومع ذلك، لا بد من الإقرار أن نتيجة التصويت بينت حجم الرفض والكراهية المتناميين للإسلام وللجاليات المسلمة، مما لا يمثل حالة سويسرية خاصة، بل ظاهرة واسعة الانتشار في كل البلدان الأوروبية كما بينت استطلاعات الرأي التي أجريت في فرنسا وألمانيا وبلجيكا(وهي أهم الدول الأوروبية من حيث حجم الحضور الإسلامي). ومن الجلي أن الاسلاموفوبيا العنصرية الجديدة المتنامية في أوروبا تندرج في سياق تنامي النزعات القومية المتطرفة التي تعزز حضورها ونفوذها في أغلب البلدان الأوروبية في السنوات الأخيرة. صحيح أن هذه التشكيلات ليست بالجديدة في الشارع الأوروبي، وبعضها وصل للسلطة في بعض البلدان مشاركاً في ائتلافات حكومية (كالحزب الشعبي الدنماركي والحزب النمساوي للحرية وحزب المصلحة الفلامانية البلجيكي)، إلا أن تركيبة التشكيلات القومية المتطرفة تغيرت جذرياً في الفترة الراهنة. ففي السابق،كان التيار القومي المتطرف يتشكل أساساً من أحزاب "اليمين" المتشدد التي تتبنى خطاباً شوفينياً منغلقاً، يستهدف قبل كل شيء القوميات الأوروبية الأخرى، بالاستناد إلى تركة التصادم والحروب الطويلة، التي مزقت القارة منذ الحروب النابوليونية إلى نهاية الحرب العالمية الثانية. وهكذا تمحور الخطاب السياسي لهذه التيارات حول ثلاث جبهات: - الانكفاء على الخصوصية القومية والثقافية في أبعادها الضيقة في مواجهة حركية الاندماج الأوروبي ونهج "السيادة المتقاسمة" في منظومة الشراكة الدولية. - التمسك بالقيم الدينية والعائلية المحافظة، ورفض الإصلاحات التحديثية في المجالات الاجتماعية، والوقوف ضد مسار العلمنة المتنامية. - النظرة الاستهجانية للنخب الثقافية والاجتماعية، والتمسك بنزوع شعبوي بدائي يجد صدى واسعاً في القاعدة الريفية لهذه التشكيلات (صغار المزارعين، المؤسسة الدينية التقليدية). ولم تكن هذه الاتجاهات الهامشية المنبوذة لتصبح قوى سياسية يحسب لها حسابها إلا بعد أن تحول موضوع الهجرة (الأفريقية والعربية والتركية أساساً) إلى موضوع حساس وحيوي في المجتمعات الأوروبية بداية من منتصف ثمانينيات القرن الماضي. ولقد تزامن هذا التحول مع أزمتين بارزتين مترابطتين: انهيار الطبقة العمالية الناتج عن طبيعة الثورة التقنية الثانية وانحسار سنوات الرفاهية التي عرفتها القارة العجوز، وانهيار أحزاب "اليسار" التقليدي التي كانت تقود عملية التحديث الفكري والمجتمعي، وتتبنى خطاب الكونية المنفتحة مع نزعة عالم ثالثية ملازمة. نتج عن هذين العاملين تنامي النزعات "اليمينية" المتطرفة التي تغيرت قاعدتها الاجتماعية، فأصبحت تتشكل أساساً من صفوف الشغيلة التي تعاني من البطالة والهشاشة، وتحمل المهاجرين الأجانب جانباً كبيراً من مسؤولية أوضاعها.كما أصبحت تجد في الشعارات القومية المتطرفة التعبير الأيديولوجي عن مواقفها بدلًا من خطاب الصراع الطبقي المألوف لدى "اليسار" الماركسي. إلا أن صورة "المهاجر" تحولت تدريجياً إلى صورة "المسلم"، إثر تنامي حضور الجاليات المسلمة في المجال المرئي الأوروبي. فالأجيال الثالثة والرابعة من مسلمي أوروبا، لم تعد مهاجرين مقيمين غريبين على النسيج الوطني، بل مواطنين يطرح اندماجهم إشكالات محورية، في مقدمتها مشكل "الاندماج الديني" في سياقات أقصت فيها النظم العلمانية الدين من الفضاء العمومي. والمفارقة البادية للعيان هنا هي أنه في الوقت الذي لا يطرح مشكل اندماج المسلمين، أي إشكالات قانونية أو عقدية (باعتبار حيادية الدولة إزاء كل أشكال الاعتقاد الديني )، فإن مشكل "الخصوصية الدينية" للمسلمين يغدو إشكالًا حاداً، يغذي نزعة الاسلاموفوبيا الحالية.وكما يبين عالم الاجتماع الفرنسي "فنسان غيسر" مؤلف كتاب "الاسلاموفوبيا الجديدة"، فإن المطلوب من المسلمين هو التخلي عن خصوصيتهم الدينية لكي يقبلوا كمسلمين. والواقع أن الحضور الإسلامي في أوروبا قد ولد إشكالية داخلية غير محسوبة هي إعادة فتح الملف الديني إثر تصدع الرؤية العلمانية القائمة إلى اتجاهين متعارضين : لائكية راديكالية لم تعد تكتفي بالحياد إزاء الدين والفصل بين المؤسستين الدينية والسياسية، ولائكية ضعيفة تعيد الاعتبار للمسيحية كهوية ثقافية وحضارية لأوروبا الموحدة في مقابل "الغزو الإسلامي". ومن الواضح أن الاتجاهين معا يغذيان نزعة الاسلاموفوبيا الحالية، حتى لو كانا ليسا في ذاتيهما مناهضين بالضرورة للإسلام. ومع أن مفهوم الاسلاموفوبيا تكرس بالفعل منذ أعلنت هيئة الأمم المتحدة أنها "شكل من أشكال العنصرية"(مؤتمر ديربان2 المنعقد بجنيف)، إلا أن العديد من الكتاب المناوئين للإسلام تعللوا في رفض مقارنة الاسلاموفوبيا باللاسامية أن الموقف النقدي من الدين يدخل في باب حرية التفكير والرأي، في حين أن نزعة العداء للسامية تستهدف "شعباً" بعينه هو "الشعب اليهودي". بيد أن هذه الحجة لا تستقيم باعتبار أن اللاسامية تتأسس على خلفية دينية بديهية (صورة اليهودي في المخيال المسيحي)، كما أن التداخل ذاته قائم في الاسلاموفوبيا بين صورة المسلم والمهاجر العربي أو التركي. ينضاف إلى هذا العامل الأول، ما يظهر في الاسلاموفوبيا من مصادرة تمييز بين الدين الإسلامي والديانات الأخرى(الحديث عن الاستثناء الإسلامي). والحقيقة الماثلة للعيان أن الانفصام يتزايد راهناً بين حقل الدراسات الإسلامية الرصينة في الغرب التي لا تلاقي أي اهتمام إعلامي والكتابات الهزيلة علمياً ومعرفياً المناوئة للإسلام . وكما يقول "غيسر"، فإن الاسلاموفوبيا الجديدة ليست نزعة ثقافية، وإنما هي "صياغة ثقافية بعدية " لشعور كراهية وخوف سائد في الشارع الأوروبي. ومن ثم جسامة مسؤولية السياسيين والكتاب الذين يغذون هذا الشعور ويستغلونه.