صدر مؤخراً كتاب جديد في مضمونه، ومؤلم لدرجة الذهول، الكتاب مذكرات موظفة خليجية تستدعي فيه مؤلفته تجربتها في العمل بالمجال الصحي. يمتلئ الكتاب بالكثير من التفاصيل الغريبة التي تحدث في أروقة المستشفيات، وقد تنطبق هذه التجربة على غالبية دول العالم الثالث، فالفساد الاداري وإهمال المرضى والدسائس بين الموظفين والأطباء المزيفين وغيرها، تجارب تشترك فيها غالبية دول الوطن العربي على وجه الخصوص. الكاتبة تكتب تجربتها الحقيقية بمنتهى الصدق والتجرد وكأنها توجه وخزة قوية، تتمثل في الإقرار بأن الأخطاء تتكرر، لأن أحداً لا يُحاسب، وأن زهق أرواح المرضى أمر أقل من عادي عند بعض الأطباء المشغولين بمنصبهم الاداري. وأزعم أن هذا الكتاب يجب أن يُهدى لكل مسؤولي الصحة ومدراء المستشفيات والادارات الطبية، فربما رأى أحدهم ذاته في مرآة هذا الكتاب، وحاول أن يَجدّ في تغيير أخطائه. فالمشكلات التي كان يعاني منها المرضى من إهمال وتجاهل وأخطاء طبية فادحة، تستدعي الوقوف عند هذا التسيب في تقدير روح المريض وجسده، الذي يعد أمانة يُحاسب عليها أمام الله وأمام القانون. واللافت هنا هو جرأة الطرح الذي تحلت به الكاتبة، وهو أمر كان غائباً عند أجيال سابقة من كُتاب كانت مذكراتهم عبارة عن علاقات خاصة بلا أهمية اجتماعية صعبة. فهذا الجيل الذي بدأ الكتابة الجادة ونشرها في دور نشر لها سمعتها وتاريخها، يعني أن التغيير القادم سيكون من خلال هذه الكتابات، وهو أمر يفسر ظهور أمثال هذه الكاتبة التي وصلت إلى مرحلة متقدمة في تجربة خاصة من نوعها. الكاتبة بعدت عن أمورها الشخصية، وتوجهت نحو مجتمع وظيفتها، لتسلخ تشوهاته، وتعلن أن العلة تكمن في المفسدين على طول الخط. الكاتبة غيرت موقع وظيفتها عدة مرات، لكن بقيت في إطار المستشفيات والإدارات الطبية، وهو ما أعطى للتجربة زخماً مكثفاً بحيث تعددت التجارب وتنوعت مواقعها، ولكنها بقيت تحمل ذات النكهة الرافضة لأي شكل من أشكال الفساد. هذه الروح المتينة من التغير، جعلت التجربة الخاصة لها وقعها واستمراريتها، بحيث يصعب ترك الكتاب دون الوصول إلى خاتمته. هذه التعرية هي الأمر القاسي في التجربة، وهي حقيقة الاكتواء بنار الخبرة والتراكم. ولو قدر كل مسؤول مسؤولياته وأدرك أنه سيتعرض لتعرية من هذا النوع، لاستطاع أن ينقذ ما يمكن إنقاذه وتفادى هذه المذكرات، ولبذل كل جهده ليكون مسؤولاً له احترامه على أقل تقدير. ففكرة إعلان السلبيات النافرة والمسيئة للمجتمع والمترتب عليها مصائب متعددة لأطراف عدة تستحق التبني والإشادة، خاصة وأن المسؤول العام عليه أن يتوقع النقد في أي لحظة مادام أرتضى أن يحتل منصباً عاماً. بالاضافة إلى مشاهدات لحوادث مرضى قضوا بسبب إهمال طبي لم يحاسب عليه الموظف المسؤول، لأنه ببساطة لا وقت للسؤال مادام هناك أكوام من المرضى في قاعات الانتظار وصالات الحوادث. هذا التراكم هو السبب في إفراز هذا التعامل اللامسؤول، فبعض المستشفيات لا يعرف عنها أحد شيئاً، وكأنها أمر لا يستحق الاهتمام أو البحث في أسواره ومشاكله. "مذكرات موظفة"... كتاب يستحق القراءة. ويستحق البحث في قضايا مشابهة تقع بيننا دون أن نعلم بها، ولكن يعلم بها أصحاب المعاناة الحقيقيون، والذين لم يجدوا إلا الإهمال من مكان جدير به أن يكون مركز الاهتمام الأول واحترام الإنسان مهما كانت درجة التزاحم أو عدد الأحياء الخارجين بسلام من بوابته.