لا تزال المناورة الإسرائيلية باقتراح تجميد الاستيطان في المناطق الفلسطينية لمدة 10 أشهر باستثناء القدس تتفاعل في الداخل والخارج. فالولايات المتحدة الأميركية وأوروبا والغرب عموماً أعلنوا تأييدهم للخطة معتبرين أنها متقدمة قد تنقذ المفاوضات حيث من المفترض أن يعود الفلسطينيون إليها. إلا أن هؤلاء لا يزالون على رفضهم، واعتبارهم أن التجميد يجب أن يشمل كل المناطق وبشكل خاص حيث استمرت أعمال البناء. أما الإسرائيليون فقد كشف غلاتهم أن العملية هي كما وصفناها سابقاً لا تعدو كونها إرضاءً للأميركيين لحفظ ماء وجههم بعد التزامهم سابقاً وقف الاستيطان للخروج من دائرة وقف المفاوضات، ومساعدة لرئيس السلطة الفلسطينية بعد إعلان عزمه عدم الترشح للانتخابات الرئاسية وتحميله مسؤولية ما ينجم عن ذلك للإدارة الأميركية، التي لم تدعمه بل تركته في منتصف الطريق بسبب تأييدها للمواقف الإسرائيلية. وزراء "اليمين" المتشدد مثل موشي يعلون وبيني بيجن وغيرهما قالوا: "إن القرار ليس تجميداً وإنما إرجاء وهو لا ينطوي على جديد وقد تم فقط لإرضاء الأميركيين"! أما أفيجدور ليبرمان وزير الخارجية فقد قال: إن الكرة في الملعب الفلسطيني. وأننا قدمنا لأبو مازن كل ما بالوسع فعله. إذا أرادوا فليأتوا إلى المفاوضات. وإذا رفضوا فليفعلوا ما يشاؤون". وأضاف: "إن القرار لا يوقف البناء في القدس. وهو يسمح ببناء المؤسسات العامة والمباني التي بدأ ببنائها فيما البناء في الضفة متوقف منذ عام ونصف العام". أما الأكثر تطرفاً داخل تكتل الليكود من أمثال النواب تسيبي جوتبلي، داني دانون ويريف لافين الذين يعتبرون المتمردين الأيديولوجيين في التكتل، فقد أصدروا بياناً قالوا فيه: "إن هذه الخطوة مناهضة لليهودية ومناهضة للصهيونية ويرفرف فوقها علم أسود"... في المقابل خرجت أصوات من داخل الفريق ذاته انتقدت الإدارة الأميركية بقسوة التي تسببت بالأزمة، ودفعت رئيس الحكومة نتانياهو إلى التشدّد ثم إلى اتخاذ مثل هذه الخطوة معتبرةً أن ثمة إرباكاً ولا يمكن الاستمرار في المواجهة مع الإدارة، وبالتالي دفع هذا الثمن الذي أدى إلى مشاكل... عملياً ماذا جرى؟ لا شيء، نعم لا شيء تغير... يفاخر المستوطنون في عدد من المناطق أنهم منعوا المراقبين من القيام بدورهم في أكثر من مكان واستمروا في العمل أي في بناء المستوطنات. ودخلوا إلى بيوت فلسطينيين وطردوا أصحابها منها وأعلنوا أنها لهم، ورفضوا تنفيذ التعليمات، وعاد المراقبون دون أن يفعلوا شيئاً. وخرج مستوطنون في تجمعات، رفعوا اللافتات وأعلنوا بأصواتهم "أن يهوداً والسامرة لنا. سيتم بناء آلاف الشقق فيها ومبان عامة وستعود الحكومة نفسها إلى استئناف العمل بعد وقت قصير"! وكان عدد من الوزراء يواكب حركة المستوطنين بدعم واضح. وهذا الأمر العملي كشف اللعبة بالكامل وفضح الإدارتين الأميركية والإسرائيلية. منذ أعلن النائب السابق يوسي بيلين إن قرار الحكومة الإسرائيلية كما أذيع " يشكل ضربة مميتة لرئيس السلطة الفلسطينية"، معتبراً أن توصيف القرار بأنه "بادرة طيبة تجاه عباس" هو "نكتة". لأن ما حصل هو ترتيب اتفاق بين إسرائيل وأميركا من وراء ظهر الفلسطينيين يمس برئيس السلطة. وأضاف: إن موافقة أميركا على القرار تضفي في شكل غير مباشر الشرعية على البناء في القدس الشرقية وهو ما لا يمكن لعباس القبول به"! وقال: "لا أستوعب كيف بلغ الأميركيون هذا المستوى من الغباء... هم الذين رفعوا الفلسطينيين إلى أعالي الشجرة بوضعهم تجميد الاستيطان شرطاً لاستئناف المفاوضات ثم تنازلوا عن هذا الشرط". وقد لفتني هذا القول لأنني سمعته حرفياً من بعض الأصدقاء والمطلعين والمواكبين للمفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين والمواكبين لحركة الرئيس الفلسطيني وموقعه ودوره حيث إن بعضهم قال له: "لقد أدخلت نفسك في مشكلة تقرير جولدستون أولاً. دفعك البعض إلى موقف فكان خطأ كبيراً وتورطت وحشرت نفسك يوم طالبتم بسحبه. ثم دفعك الأميركيون إلى أعالي الشجرة وأيدوك بالتمسك بشرط وقف الاستيطان للعودة إلى التفاوض ثم تركوك فوق. والآن ما عليك إلا أن تقول: من أوصلنا إلى هنا يجب أن يتحمل المسؤولية فهل أنت قادر"؟ أبو مازن في وضع صعب، والوضع الفلسطيني كله يزداد صعوبة، كل هذا والمصالحة الفلسطينية لم تتم. والوضع الفلسطيني لا يزال مأزوماً سياسياً واجتماعياً، وإسرائيل تستمر في اعتداءاتها وحصارها وارتكابها الجرائم، وكأنها تريد أيضاً الاستفادة من خطوتها المناورة لتغطي مناوراتها وأعمالها الإرهابية ضد الفلسطينيين الذين صدر موقف سويدي مؤيد لهم حول القدس، وفي هذا التوقيت بالذات خطف الأضواء نسبياً وسياسياً ودبلوماسياً عما يجري وتقدم كل المواقف. فقد نشرت إحدى الصحف اقتراحاً سويدياً بقيام دولتين فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية وأخرى إسرائيلية. وقامت قيامة إسرائيل التي تمسكت بالقدس، الأمر الذي أدى إلى جدل في أوروبا وانقسم الناس بين مؤيد ومعارض. بين داعٍ إسرائيلي إلى الهدوء، وآخر يدعو إلى عدم المساس بتركيبتها قبل المراحل النهائية"... نعم من هذا الموقع اقتراح متقدم حرك في الوقت ذاته مواقف أوروبية من إسرائيل. حتى في فرنسا انزعج بعض أصدقاء نتانياهو من غلوائه ومكابراته وغروره وعناده. وأخذوا عليه عدم المرونة في التعاطي وأبدوا انقساماً على تركيا – رغم اعتراضهم على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي – وتأييداً لدورها في رعاية المفاوضات بين سوريا وإسرائيل في وقت أرادت الأخيرة عدم اعتماد هذه القناة اليوم بسبب تباينات بينها وبين تركيا، لكن سوريا أصرت على الدور التركي والاتكال عليه. واتهمت إسرائيل السويد بعرقلة الدور الأميركي متهمة إياها بأنها تحاول " فرض سياسات وإملاءات تتعارض مع السياسة التي يتبعها الرئيس الأميركي لمعاودة عملية السلام!" وترافق ذلك مع صدور تقرير أوروبي انتقد تهويد القدس، وجاء فيه أن حكومة إسرائيل وبلدية القدس تعملان معاً من أجل تغيير الطابع الديموغرافي والجغرافي للمدينة، والعمل على فصل شرق القدس عن الضفة الغربية، كما تساعد الحكومة والبلدية الجمعيات اليهودية اليمينية المتطرفة التي تشتري المنازل وغيرها في الأحياء العربية. كما تطرق إلى الحفريات التي تقوم بها إسرائيل، وإلى قلة الأمن والأمان التي يشعر بها الفلسطينيون... إذاً نحن أمام سباق مع الوقت، تحاول إسرائيل فيه اختراق كل الحواجز ومواجهة كل الاعتراضات. وتصدر أصوات ومواقف وتقارير من دول وجمعيات ومنظمات غربية تؤيد الحقوق الفلسطينية، كما تصدر في عدد من الدول الغربية مواقف وقرارات ضد المسلمين مثل التصويت الأخير ضد بناء المآذن والتصويت السابق، واللاحق هنا وهناك ضد ارتداء الحجاب، تحت عنوان الخوف من تمدّد المسلمين في تلك الدول، وهذا بحد ذاته دفع بعض المحللين والكتاب والاستراتيجيين إلى الدعوة إلى حل القضية الفلسطينية كقضية مركزية أساسية تحرك مشاعر كل المسلمين والعرب... أما العرب فهم غارقون في أزماتهم السياسية المالية والأمنية والفكرية وهذا هو الأخطر. وكذلك في أزمة التشرذم والانغلاق على الذات. وهذا أيضاً يصيب الفلسطينيين، مع أننا أمام فرصة كان ولا يزال ممكناً الاستفادة منها لو أحسنّا التعاطي مع عوامل الصمود ومع هزيمة إسرائيل في أكثر من مكان ومع الظروف الدولية والإقليمية، التي لم تعد لمصلحة أميركا، التفرد والاستعلاء والمكابرة. فلنبحث عن شراكة فلسطينية، ثم شراكة عربية، ثم شراكة مع الدول الصديقة وعمل مع الآخرين لتكريس الموقعين العربي والفلسطيني في كل المعادلات ولضمان حقوقنا، لا أن نقف عاجزين فنوطـّن الهزيمة واليأس في عقولنا ونفوسنا، فيما تستمر إسرائيل في التوسع والاستيطان على أرضنا!