لا تزال فيتنام تحتلّ أعلى درجات التمجيد بوصفها ملحمة ثوريّة التحم فيها "الشرّ" والتجزئة في جانب، واحتشد "الخير" والتوحد في جانب آخر. غير أنّ من الحقائق والوقائع المطموسة والمعقّدة ما يرويه تروونغ نهو تانغ، صاحب كتاب "يوميّات فيتكونغيّ". فتانغ قاتَلَ لعقدين ضدّ حكومة فيتنام الجنوبيّة والأميركيّين. وهو لم يكن شيوعيّاً، لكنّه انضمّ إلى المعارضة السرّيّة لحكم "دييم" الجنوبيّ أواخر الخمسينيات، بينما كان موظّفاً في مصرف بسايغون. وهو يصف مشاركته في تنظيم "جبهة التحرير الوطنيّ" وكيف عُذّب حينما اعتُقل في 1967. لكّنه بعد إطلاق سراحه، كجزء من عمليّة تبادل للسجناء، سُمّي وزيراً للعدل في الحكومة الثوريّة الموقّتة التي أُعلنت في 1969، وفي 1975 دخل ظافراً إلى سايغون مع باقي المنتصرين الـ"فيتكونغ" وقوّات فيتنام الشماليّة. إلاّ أنّه بعد ثلاث سنوات ونصف السنة، بلغ به الغضب من هيمنة هانوي على الجنوب أن غادر البلد على متن أحد الزوارق، فكان أبرز رسميّ فيتناميّ ينشقّ. فسقوط سايغون لم يكن نهاية لسلطتها "العميلة" وللوجود العسكريّ الأميركيّ فحسب، بل كان، كذلك، نهاية للشيوعيّين الجنوبيّين وللوطنيّين الناشطين في "جبهة التحرير". فهؤلاء أرادوا نوعاً من التطوّر المستقلّ لفيتنام الجنوبيّة وكانوا بالغي الحذر، وأحياناً العداء، للنموذج الشيوعيّ في الشمال. لكنّ هانوي سريعاً ما أوضحت أن "فيتنام المستقبل ستكون كتلة مونوليثيّة، جماعيّة وتوتاليتاريّة، لا مكان فيها لثقافة الجنوب وتقاليده". ولا بدّ من التنبيه، ضدّاً على الرواية البسيطة لهانوي والمقاومة في ما خصّ "توحيد فيتنام"، إلى افتراق مديد في تاريخ الأقاليم التي وُحّدت، في 1975، وفي تشكّلها الثقافيّ والاقتصاديّ، بحيث يصعب الكلام على فيتنام واحدة "جزّأها الاستعمار" بالمعنى البسيط للكلمة. فمنذ القرن السابع عشر قُسّمت الرقعة التي باتت تُعرف بفيتنام بين أسياد عشائر "ترينه" في الشمال وأسياد "نغوين" في الجنوب. وفيما أطلق الأوروبيّون على الأجزاء الشماليّة تسمية تونكين، عُرف الثلث الجنوبيّ بكوشنشينا، وأهمّ مدنها سايغون. وهذه باتت مستعمرة فرنسيّة ما بين 1862 و1948، لكنْ في 1954 أنشئت دولة فيتنام الجنوبيّة بتوحيد كوشنشينا و"أنّام" الجنوبيّة، والأخيرة هي الجزء الأوسط من فيتنام، والتي كانت محميّة فرنسيّة. وقبلذاك، وفي نهاية الحرب العالميّة الثانية، تمكّن الشيوعيّون الشماليّون بقيادة "هو شي منه" من أن ينتزعوا، من فرنسا ومن الاحتلال اليابانيّ الذي استجرّته الحرب المذكورة، استقلال الأجزاء الشماليّة، كما استعادوا كلمة "فيتنام"، التي كان آخر من استخدمها الإمبراطور "جيا لونغ" في 1804. كذلك يتّضح أنّ ما فجّر الوضع الفيتناميّ ليس شرّاً استعماريّاً كان مُقدّراً أو مُحتّماً سلفاً، وأنّ انزياح قطاعات واسعة من الجنوبيّين إلى المقاومة لم يكن "خيار الجماهير" بالمعنى الطبيعيّ الذي يحتمله التعبير. فهناك أكثر من عنصر كان في الوسع تفاديه، ومن ثمّ تفادي نتائجه. ففي كتابه (المترجم عن الفرنسيّة) "فيتنام: بين هدنتين"، يسترجع جون لاكوتور الوضع في فيتنام الجنوبيّة التي يعتبرها إحدى أكثر مناطق العالم غنى بالتعدّد. فطوبوغرافيّتها تنطوي على نقائض السهول والجبال المأهولة بعشائر بدائيّة، وهي منتج كبير للأرزّ الذي يستدعي عناية شخصيّة دؤوبة، ما يسهم في إنتاج فلاّحين مستقلّين ومنفصلين عن سواهم. وكان للتنوّع الذي أدخله الاحتلال أن وجد سنده في التنوّع الدينيّ. فسكّان الجنوب يتوزّعون على أعداد ضخمة من البوذيّين والكاثوليك والكونفوشيّين، وكلّ جماعة منهم تمارس عبادة موصولة بأسلاف، ميثولوجيّين أو واقعيّين، معيّنين. ولئن شكّلت أحزاب الجنوب الحديثة نوعاً من الامتداد للقوى الشماليّة، بقي هناك العديد من الطوائف المحليّة، التي تجمع بين نشاط العصابات وبين تديّن سلكيّ وفِرَقيّ. وإنّما بسبب من تبعثر الريف وعدم نشوء نظام مهيمن واحد، فكريّ أو دينيّ، عليه، تمكّن الفرنسيّون بسهولة من أن يحكموه لعقود متتالية. هكذا بدت التعدّديّة شرطاً لنجاح أيّ نظام يقوم في الجنوب، وهو ما لم يكن ينطبق على حكم "دييم"، الذي تولّى رئاسة جمهوريّة فيتنام الجنوبيّة في 1955، وبهذا كان أوّل رؤسائها. فـ"دييم"، الأريستوقراطيّ الكاثوليكيّ الصادر عن مناطق الهضاب المرتفعة، يختلف في تكوينه عن أكثريّة الفيتناميّين. بيد أنّ هذا لم يجعله حكَماً يتعهّد تعدّدهم، ففضلاً عن الفساد والاستبداد، لم يتردّد في إبداء كلّ نفور ممكن من التعدّد لصالح الواحديّة الكاثوليكيّة القديمة. وهكذا اصطدم بعداء البوذيّين الذين يعدّون أكثر من ثلثي السكّان. وفي البداية كان على "دييم" أن يقاتل الطوائف والفِرق والقوى التي تعيّشت على نفوذ الفرنسيّين. وفي سياق المعركة، أزاح الإمبراطور "باو داي" وأعلن نفسه رئيساً. أمّا وأنّه كسب المواجهة، فإنّه لم يعرف كيف يستخدم انتصاره لترسيخ وضع على شيء من التجانس. فقد اختار المضيّ في المواجهة مع المجتمع، ومنذ 1955، وبنبرة التحديثيّين الانقلابيّين والسطحيّين، بات كلّ خصم له موصوماً بأنّه من رواسب الطوائف والإقطاع المدعومة من الاستعمار. لكنْ ابتداء من 1956 صار الخصم يوصم بالشيوعيّة. وعامذاك دشّن نظام "دييم" حملته ضدّ الـ"فيتكونغ"، لكنّها ما لبثت أن اتّسعت لتشمل كلّ من خالفه الرأي والموقف. وبالروحيّة ذاتها، وضدّاً على نصيحة السفير الأميركيّ في سايغون، لم يتقيّد "دييم" باتّفاقيّة جنيف في 1954 التي تنشئ دولتي فيتنام الشماليّة والجنوبيّة، راسمةً خطّاً مَرعيّاً دوليّاً بينهما، بإلغائه تلك الفقرة الداعية إلى إعادة توحيد فيتنام عبر انتخابات حرّة، وهي فقرة كان من الواضح أنّ هانوي لن تعمل بموجبها، أقلّه آنذاك. وهكذا، ومن خلال حربه العمياء على "الفيتكونغ" وعدائه المرَضيّ للشيوعيّة، وحّد ضدّ نظامه قوى ما كان لها أن تجتمع. فنحن، إذن، أمام قصّة نمطيّة أخرى من قصص "العالم الثالث" حيث يحول التخلّف دون إنتاج قوى قادرة على إطاحة الاستبداد بأفق ديمقراطيّ. فكيف حين يدخل العنف والسلاح، من قبل الطرفين المتقاتلين الأقصيين، ليزيدا في الحدّ من احتمال كهذا؟