منذ تولي أوباما المسؤولية في "البيت الأبيض"، لم تحدث على أرض الواقع تغييرات كبيرة تجاه القضية الفلسطينية، رغم مثابرة الإدارة الأميركية على طرح المواقف الواضحة تجاه إسرائيل الرافضة للتجاوب مع تلك المواقف بوقف بناء المستعمرات (المستوطنات). وإزاء الطرح الأميركي المبكر والقوي، ما زال العرب (والعالم) يرقبون أوباما مع الارتياح من تصريحاته وقياس مدى حركيتها على صعيد الانتقال نحو التفعيل والتطبيق. فاستراتيجية الرئيس الأميركي تركز على "السلام الشامل"، ليس فقط بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بل مع الدول العربية والمسلمة أيضاً. ورغم صحة القول بأن أجندة كل رئيس وأطروحاته تدخل عليها تعديلات في ضوء ثبات الأهداف الاستراتيجية الأميركية المستندة أساسا إلى مصالح ثابتة وقوى ضغط (لوبيات) راسخة، فإن أوباما الذي يؤيد "حل الدولتين" لديه دوماً "هامش مهم" يستطيع من خلاله أن يفعل الكثير، خاصة وأنه متحمس لفعل كل ما في وسعه لإيجاد حل للقضية الفلسطينية. وها هو -كي لا ينسى أحد حقيقة موقفه- يثابر على التصريح بضرورة وقف إسرائيل "الاستيطان"، وإخلاء المستعمرات، ومنح تسهيلات للفلسطينيين. وإذ نرقب نشاط إدارته لتحقيق رؤيته لحل الصراع (وهو أمر يحتاج إلى جهد مضن وليس لأشهر فقط) نأمل أن لا يتخلى أوباما نفسه عن حماسته ورؤيته أمام التمنع والعناد الإسرائيليين. وفي هذا السياق، لا نظنه سيتخلى عن تلك الحماسة، ذلك أن الدولة الفلسطينية -كما كرر أركان الإدارة الأميركية- هي "مصلحة استراتيجية" للولايات المتحدة، وليس سهلا التراجع عنها لما لذلك من تداعيات سلبية على سمعة واشنطن ومصالحها في العالم، الأمر الذي يجعلها تصرّ على بدء عملية شاقة لبناء الثقة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل تمهيدا لاستئناف محادثات السلام بين الطرفين وصولا إلى التسوية النهائية التي يقولون إنها أولى بالاهتمام من جزئية "وقف الاستيطان". وهنا لا بد أن نعترف أنه رغم التزام أوباما بمصالح حيوية لبلاده في أقطار ومعارك عديدة، فإن أطروحاته بإنشاء دولة فلسطينية قابلة للحياة، تصطدم بحكومة إسرائيلية يمينية متشددة ملتزمة بتوسيع تحركها الاستعماري في الضفة وتحديدا في القدس. وهنا يبرز السؤال: ماذا يمكن أن نقدم من أجل مساعدة أوباما لإنجاح رغباته الحسنة؟! فأوباما لن يخوض، في النهاية، معارك ضد إسرائيل نيابة عن الفلسطينيين والعرب والمسلمين، ثم من سيحترمنا إن نحن لم نقاتل من أجل قضيتنا؟ أول الأولويات يتعلق بالمصالحة وإنهاء الانقسام بين حركتي "فتح" و"حماس"، خاصة وأن تقرير جولدستون كان قد خلف هزات داخل الساحة الفلسطينية أثّرت سلبا على جهود المصالحة وعمقت الانقسام الحاصل، فضلا عن أن إسرائيل حريصة على إبقاء الانقسام. فالمصالحة، في ظل وقف الرئاسة الفلسطينية للمفاوضات واشتراطها وقفاً كاملا للاستيطان قبل العودة لعملية التفاوض، باتت مطروحة أكثر من أي وقت مضى، خاصة أن أي تقاعس أو تخلف في رأب الصدع يعني في النهاية تقسيم الوطن بشكل نهائي بين الضفة والقطاع. ثانياً، يتوجب علينا التلويح بجدية بفكرة "حل السلطة"، خاصة مع استمرار السياسة الإسرائيلية. فسيناريو "حل السلطة" هو في حقيقة الأمر كابوس لإسرائيل، ذلك أن المشاكل التي ستترتب على الإسرائيليين من جراء حلها لا طاقة للاحتلال بها. ولعل في طليعة هذه المشاكل: اضطرار الجيش الإسرائيلي إلى البقاء هناك رسمياً مما يعني أن عليه -إضافة إلى المهمات الأمنية العادية- القيام بحماية رجال الاحتلال الإسرائيلي الذين سيتولون مسؤولية إدارة جهاز التعليم والصحة والإغاثة والمواصلات والمياه والكهرباء والبلديات.. إلخ. يضاف إلى ذلك، إيجاد التمويل الأجنبي (الغربي بالذات) للنشاط المدني، فضلا عن الكلفة السياسية والإعلامية، إذ سيعود للاحتلال وجهه القذر القديم الذي تخلص منه، بشكل أو بآخر، بعد نشوء السلطة الفلسطينية حين بدا الصراع أمام العالم: بين دولتين، وليس بين احتلال وشعب محتل. ثالثا، في ظل تراجع المقاومة المسلحة ضد الاحتلال، ومع تعاظم أنموذج "بلعين" و"نعلين" وغيرهما من القرى المناضلة في الضفة، تنفتح الشهية على اندلاع المقاومة السلمية ضد الاحتلال المجبول بالعنصرية وممارساتها، وضد الاستعمار "الاستيطاني" وبناء الجدار العنصري، وضد عموم سياسات التهويد ومصادرة الأراضي وهدم البيوت والحفريات تحت قبة الصخرة والبلدة القديمة في القدس. وتشير هذه الإرهاصات المتراكمة إلى إمكانية انبثاق انتفاضة جديدة عمادها هبات جماهيرية تتوالى في سلسلة مستمرة باتجاه التطور والتحول إلى انتفاضة جماهيرية ثالثة ضد الاحتلال، إذ لا يمكن تغييب البعد الشعبي المنظم في المواجهة أو الإنابة عنه أو اختزاله. بل إن ذلك البعد هو الذي سيعزز وجود الفصائل الحقيقية، أو يكشف بالتالي الفصائل التي لا تقوم بدورها في العمل الشعبي والمقاومة ولو بإلقاء حجارة صغيرة! وقد تعلمنا من تاريخ انتفاضات الشعب الفلسطيني أنه من الصعب على الاحتلال التكيف مع يوميات وتداعيات الانتفاضة الشعبية الواسعة، لاسيما حين تكون حضارية وسلمية، أسوة بما حدث في الانتفاضة الكبرى الأولى (1987 -1993) ناهيك عن كون الاحتلال (وبالذات في ظل حكومة إسرائيلية "غير مهضومة" عالمياً) سيكون عاجزا أمام أسرة دولية "حانقة" ضد المماطلات الإسرائيلية، وبالذات حين تتشجع أوروبا، ومعها دول العالم الكبرى، بزخم سياسة أميركية جديدة تقودها إدارة جديدة وعدت بالتغيير وبالعودة إلى المبادئ الأميركية الأصيلة. ومع وقف "عملية" المفاوضات، تتكرس في فلسطين سياسة "أبارتايد" إسرائيلية شبيهة بسياسة جنوب أفريقيا العنصرية. وهذه السياسة، بكل مقارفاتها، ستزداد ما دامت حكومة نتنياهو في الحكم. وحتى لو عادت تلك "العملية" إلى الحياة فهي لن تخرج عن كونها عبثية ستمنح إسرائيل الغطاء من جديد لمواصلة سياستها "الاستيطانية" والتهويدية. وإسرائيل، من جهتها، ليست معنية كثيرا حتى باستمرار "عملية" المفاوضات بل هي تدفع الجانب الفلسطيني باتجاه الانسحاب منها. لذا، علينا مجددا (فلسطينيين وعربا ومسلمين) أن نضع أنفسنا (بوحدتنا الوطنية أولا، وبمقاومتنا الشعبية الحضارية ثانيا) أمام الأضواء من جديد، فلن يقاتل أوباما أو غيره من أجل فلسطين إن لم نتحرك نحن!