لكل أمة أساطيرها وأوهامها الخاصة، فمعظم الأميركيين مثلا يعتقدون أن تاريخهم لا يمت بصلة للإمبريالية، رغم أن أسلافهم استوطنوا القارة الأميركية واستأصلوا تقريباً كل السكان الأصليين فيها، كما يعتقد العرب أيضاً أنهم ينحدرون من جذور عرقية واحدة رغم الامتزاج الكبير الذي حصل بين الأعراق والتمدد الجغرافي الذي أخرج العرب من شبه الجزيرة العربية، وبالمثل يذهب الفرنسيون إلى أنهم أحفاد الجوليين في أوروبا رغم الاختلاط الذي حدث بين الأجناس... لكن الأمر يأخذ أبعاداً أكبر عندما يتعلق الأمر بدولة مثل إسرائيل بنت شرعيتها على قراءة خاصة للتاريخ تأسست على مجموعة من الأساطير لتبرير وجودها وإضفاء الشرعية على سياساتها، تلك الشرعية التي يسعى المؤرخ الإسرائيلي "شلومو ساند" إلى تفنيدها والتشكيك في صحتها من خلال كتابه الذي نعرضه هنا، وعنوان "اختراع الشعب اليهودي". ومن أهم الأساطير، أو المقولات الرائجة في الدراسات التاريخية الإسرائيلية التي يفندها الكاتب، الفكرة القائلة بأن يهود العالم ينحدرون من قبائل بني إسرائيل الأولى التي كانت تقطن الأراضي المقدسة في فلسطين، وأنهم اضطروا للخروج بعد سقوط المعبد على أيدي الرومان سنة سبعين بعد الميلاد، ليحق لهم اليوم، وبعد مرور ألفي سنة، الرجوع مجدداً إلى "وطنهم الأصلي"! والكتاب يدخل منذ بدايته في مواجهة أكاديمية تعتمد على الحفريات الأركيولوجية والمصادر التاريخية الموثوقة، مع الفكر الصهيوني الذي روج لفكرة التاريخ اليهودي المشترك، لخلق كيان هو في الواقع، كما يقول الكاتب، متخيل إلى أبعد الحدود ويناقض الدراسات التاريخية الموضوعية. والمؤلف الذي يدرّس التاريخ المعاصر في جامعة تل أبيب يرفض أغلب الأساطير التي تحيط بالتاريخ اليهودي، معتبراً أن هذا التاريخ المزعوم تم تزييفه وإعادة تشكيله، بل اخترع من جديد في وقتنا المعاصر ليخدم المتطلبات السياسية للفكرة الصهيونية القائمة على توطين اليهود في فلسطين وإقناعهم بأنها البلد الذي ينحدر منه أجدادهم. وفي هذا الإطار يندرج الكتاب ضمن مشروع المؤرخين الجدد في إسرائيل الطامحين إلى مساءلة الأفكار الجاهزة التي تروجها المؤسسة الصهيونية الرسمية، بل يشككون في مزاعم إسرائيل بأنها تعكس طموحات شعب يهودي محدد في الزمان والمكان يمتلك خصائص عرقية فريدة تميزه عن باقي الشعوب وتعطيه الحق في دفع مطالبه بإنشاء وطن قومي وخلق حالة قومية يقول عنها إنها متوهمة ولا تسندها الحقائق التاريخية. ويبدأ الكاتب بتفنيد المزاعم التي تقول إن إسرائيل وُجدت كأمة قبل آلاف السنين، وهي مقولة تفترض أن ما جاء في العهد القديم صحيحاً، رغم تناقضه الواضح مع ما تكشف عنه الحفريات الأريكولوجية والقرائن التاريخية، مشيراً إلى أنه قبل أقل من قرن كان اليهود ينظرون إلى أنفسهم كأتباع ديانة وليسوا قومية، لكن مع بداية القرن العشرين ظهر الفكر الصهيوني الذي شوه الفكرة بهدف خلق تاريخ قومي، وذلك بتركيزه على أن اليهود عاشوا كشعب بمعزل عن الدين. وبالمثل يقول الكاتب سعى الصهاينة إلى إقناع اليهود بأنه من واجبهم العودة إلى فلسطين التي هُجروا منها، وهي مقولة منافية تماماً للعقيدة اليهودية التي تنظر إلى الأرض المقدسة باعتبارها مكاناً للتبرك لا يجوز العودة إليه إلا بعد عودة المسيح. الكاتب أيضاً ينفي وجود التهجير القسري الذي يزعمه التاريخ الرسمي بعد انهيار المعبد على أيدي الرومان، مفسراً انتشار اليهود في العالم بطبيعة الديانية اليهودية في تلك المرحلة والتي كانت ديانة تبشيرية دفعت اليهود إلى الهجرة والاستيطان في بعض المناطق مثل اليمن وشمال أفريقيا... لنشر اليهودية. أما عن اليهود في أوروبا فهو يركز بشكل خاص على إمبراطورية الخزر التي انتعشت بين القرنين الرابع والثالث عشر الميلاديين، وكانت إمبراطورية يهودية نشأت في جنوب روسيا الحالية على ضفاف نهر قزوين. ويقول الكاتب إن المؤرخين الصهاينة يرفضون دراسة إمبراطورية الخزر كي لا يصطدموا بواقع ينزع الشرعية عن إسرائيل لأن اليهود الموجودين حالياً في فلسطين ليسوا هم بني إسرائيل الذين تحدثت عنهم الكتب المقدسة، بل هم شعوب أوروبا الوسطى الذين اعتنقوا اليهودية عندما كانت هذه الأخيرة ديانة تبشيرية. لكن إذا كانت أغلبية يهود فلسطين ظلوا هناك باعتبارهم مزارعين، كما تشير الحفريات، فماذا حل بهم بعد أن تأكد أن عدداً قليلا فقط خرجوا إلى بلدان أخرى؟ عن هذا السؤال يجيب الكاتب قائلا "إن الأمر لا يلقن في المدارس الإسرائيلية، لكن أغلب القادة الصهاينة الأوائل بمن فيهم بن جوريون كانوا يعتقدون أن الفلسطينيين هم أحفاد اليهود الحقيقيون، ولعلهم اعتنقوا الإسلام عندما وصل إلى فلسطين"! زهير الكساب الكتاب: اختراع الشعب اليهودي المؤلف: شلومو ساند الناشر: فيرسو تاريخ النشر: 2009