يحاول مؤلفا كتاب "اللغة العربية والتفاهم العالمي"، والذي نعرضه هنا، وهما الدكتور رشدي أحمد طعيمة والدكتور محمود كامل الناقة، إبراز دور اللغة العربية في إشاعة ثقافة التسامح ودعم قيم التفاهم العالمي وتأكيد مفاهيم التواصل الحضاري. ويروم المؤلفان الإجابة على السؤالين التاليين: ماهي المبادئ والقيم الناظمة لذلك الدور؟ وماذا عن الآليات التي تستطيع من خلالها اللغة العربية تحقيق هذه القيم وتلك المبادئ؟ يتألف الكتاب من ثلاثة أبواب: "مشكلة الدراسة ومنطلقاتها"، "القيم والمبادئ"، وأخيراً "البرامج والآليات". وفي معرض بيانهما الحاجة الماسة إلى وظيفة اللغة في دعم السلام وثقافة الحوار والتعايش، يوضح المؤلفان جوانب من أزمة المجتمع العالمي المعاصر، وما يعانيه من تصاعد في حدة التعصب وعدم التسامح وكثرة الصراعات والنزاعات وانتشار ثقافة العنف والإرهاب... مما يوجب الالتفات إلى دور الثقافة، وفي مقدمتها اللغة عامة والعربية على وجه الخصوص، في الخروج من حالة الصراع والتناقض إلى حالة التعايش والتكامل. وبعد أن يعرض آراء مختلفة حول مفهوم التسامح، من حيث هو قبول بالآخر واستعداد للتواصل والحوار معه، تجاوزاً لما في العقول والأذهان من أوهام وصور نمطية متبادلة... يتطرق الكتاب إلى موقع اللغة العربية في سياق التفاهم العالمي المنشود، بأبعاده النفسية والتربوية والإعلامية والاستراتيجية. فالعربية لغة عالمية قادرة على التعبير عن أدق خصوصيات الإنسان ومشاعره، بل لا تدانيها لغة أخرى فيما تمتلكه من طاقات بيانية وبلاغية وقدرة على تجاوز مستويات الفهم العقلي. فهي لغة القرآن، وهو أعظم معجزة لغوية وبلاغية، ولغة الحديث النبوي الشريف، وهو كلام الرسول الذي أوتي مجامع الكلم. لذلك نجد أنها شغلت فصحاء القوم الذين تنبهوا إلى خصوصياتها الفريدة، فتملكهم سحر بيانها وجمال بلاغتها، كما استوقفت البلاغيين وعلماء اللغة لسبر أسرار بلاغتها ومكامن تميزها الباهر. والعربية هي لغة الأمثال والحكم والوصايا والأشعار والعلوم والآداب والفكر والفلسفة، فقد أوجز فيها العرب تجاربهم، وسجلوا بواسطتها خلاصة معارفهم وتاريخهم، وفي هذا ينقل الكتاب عن فيليب حتي قوله: "هي لغة علوم الأوائل، تفسيراً وحديثاً وتاريخاً ونقداً وبلاغة وفكراً وعلماً... منذ فتح المأمون بيت الحكمة، فكان نافذة حضارية عريقة وعميقة زادت من حيوية العربية وعطائها، وأطل من خلالها العرب على حضارات الأمم المجاورة لهم والمتعايشة معهم". وكما يلاحظ الكتاب، فإنه مع ارتباطها بالإسلام، أصبحت العربية لغة عالمية رحبة، تتجاوز حدود الأوطان والأعراق والأديان، فغلبت عليها سماحة الأخذ وبراعة العطاء وحيوية التفاعل وعمق الجدل... فحاورت وتداخلت وازدادت ثراءً وعمقاً ورحابة، ثم كانت لغة الترجمة التي استوعبت الدخيل والمعرب من مختلف اللغات. والشاهد في كل ذلك أن اللغة العربية قادرة على التعبير عن مفاهيم التسامح، وعلى إيصال رسالة حوار وتعايش واضحة، دقيقة وجميلة، تتناغم مع مختلف مستويات الإدراك الإنساني. لكن تكريس دور العربية في تحقيق التعارف والتفاهم وإرساء قيم السلام العالمي، يتطلب قبل أي شيء آخر -كما يوضح الكتاب- تغيير المفهوم التقليدي الذي يعتبر اللغة مجرد أداة وسيطة محايدة لنقل الأفكار والمعارف، نحو النظر إليها كروح تنتج الأفكار وتولد المشاعر وتبني المفاهيم. فالجانب الفكري في اللغة هو الجانب المثمر والأكثر أهمية، ذلك أنها هي ما يشكل عقولنا وينشئ مفاهيمنا، وبالتالي توجه سلوكنا فتجعله إيجابياً يخدم الحوار والتعايش والوحدة. فاللغة بهذا المعنى ليست مجرد وسيلة اتصال آلي، بل هي من جهة تمثل انعكاساً لبنية الفكر والثقافة والوعي، وهي من جهة أخرى تعد رابطة تشد أفراد المجتمع بعضهم إلى بعض، فتوحد أفكارهم وتلون أحاسيسهم وتشكل عماد هويتهم الثقافية والحضارية. وفي معرض مناقشته الآليات اللغوية، يميز الكتاب بين مستويات مختلفة من لغة الخطاب؛ فعلى المستوى الرأسي نجد مستويين: لغة التراث، ولغة الحياة المعاصرة. وعلى المستوى الأفقي نجد مستويات تختلف باختلاف الموقع والسياق، واختلاف الانتماء الاجتماعي أو المهني أو مجال التخصص. ويتطرق الكتاب إلى دور الآليات الاجتماعية في دعم التفاهم العالمي وإشاعة ثقافة السلام، ويقسمها إلى آليات داخلية وآليات خارجية، كما يتناول دور الآليات الاتصالية، والآليات الإعلامية، والآليات التربوية. فمن الوسائل الضرورية لتوظيف اللغة العربية وزيادة إسهامها في تعزيز التعارف والتفاهم والسلم، وضع منظومة متكاملة للاتصال يتحقق من خلالها الحوار الإيجابي بين العرب والشعوب الأخرى، كما يتعزز موقع العربية في الوقت ذاته. كذلك يمكن للإعلام لعب دور مهم ومؤثر في تقوية اللغة العربية وفي إشاعة مفاهيم التسامح وقيم التفاهم العالمي. والأمر نفسه ينطبق على النظام التعليمي والتربوي الذي يقع عليه عبء بناء جيل عربي نقدي قادر على المواجهة وعلى تجاوز ذاته إلى الإحساس بالآخر وقبول التعايش معه. لكن ذلك لا يمكن أن يتحقق، وفقاً لما يؤكده الكتاب، إلا بالتغلب على أوجه القصور في الفاعلية التعليمية، بدءاً بتقوية موقع اللغة العربية في أهداف النظام التربوي ومحتواه ووسائله وطرق التدريس والتقويم فيه. ولعل معادلة الترابط الشرطية التي يريد الكتاب تأكيدها على امتداد أبوابه وفصوله وصفحاته؛ هي أنه لا سلام بدون حوار، ولا حوار بدون لغة، ولا لغة لأمة سوى لغتها القومية. محمد ولد المنى الكتاب: اللغة العربية والتفاهم العالمي المؤلفان: د. رشدي أحمد طعيمة، ود. محمود كامل الناقة الناشر: دار المسيرة تاريخ النشر: 2009