في أسبوع واحد، مثل ثلاثة من الرموز السياسية في فرنسا أمام القضاء هم: الرئيس السابق "جاك شيراك"، المتهم في ملف قديم يتعلق بتسييره لبلدية باريس ورئيس وزرائه "دومنيك دفلبان"، الذي اشتكاه الرئيس "ساركوزي" شخصياً ونعته بـ"المذنب، ووزير الداخلية الأسبق "شارل باسكوا" المتهم في صفقة السلاح الأنجولية الشهيرة .ما يجمع بين الثلاثة هو أنهم خصوم للرئيس الحالي "ساركوزي" رغم انتمائهم جميعاً للعائلة اليمينية. وقد أثارت هذه المتابعات أسئلة جذرية حول مدى الاستقلالية الفعلية للقضاء في هذا البلد الديمقراطي العريق، الذي يفتخر بأنه كان أول من بلور نظرية السلطات الثلاث المستقلة (مونتسكيو). وفي إيطاليا، برز حوار مماثل حول الخطر الذي تتعرض له الديمقراطية جراء قبضة رئيس الوزراء "برلسكوني" على الإعلام التلفزيوني الذي يصوغ الرأي العام ويتحكم في توجيه الناس، والتأثير في خياراتهم السياسية. فما معنى حرية إرادة الناخب إذا انتفت الشروط الموضوعية للحوار التعددي؟ وفي الساحة الأوروبية كلها، التي شهدت الأسبوع المنصرم قيام حكومة اتحادية فعلية برئيس ومسؤولين مكلفين بالقطاعات الحيوية، يغدو من المشروع التساؤل حول المضمون الفعلي للحالة الديمقراطية ما دام أغلب القرارات الجوهرية تتخذ في المؤسسات الاتحادية خارج قنوات التمثيل المحلي المعبرة عن إرادة المواطن؟ إشكالات ثلاثة جوهرية تتعلق بالتحديات التي تواجه الديمقراطيات الأوروبية، بل والأنظمة الديمقراطية العريقة في مجملها. وسنكتفي في هذا الحيز بالوقوف عند التحدي الأول المتعلق بعلاقتي السلطة القضائية. في هذا السياق، يمكن التمييز بين مستويين:تقليدي يتعلق بالمخاطر الدائمة التي تهدد استقلالية القضاء التي تتعرض بانتظام لهيمنة وتأثير السلطة التنفيذية، ومستوى ثان جديد يتعلق بالظاهرة التي عبر عنها البعض بـ"ديكتاتورية القضاء"، وعبر عنها البعض الآخر بـ"الانزياح الجزائي للسياسة. يبدو الصنف الأول من المخاطر أكثر حدة في الديمقراطيات الناشئة التي غالباً ما يكون القضاء أحد الأدوات الرئيسية للتحكم وإخضاع الخصوم، إلا أنه خطر ثابت في كل الساحات السياسية، كما أثبتت التجربة الفرنسية الأخيرة. ولا بأس بالإشارة هنا إلى أن رئيس الجمهورية حسب الدستور الفرنسي هو رئيس المجلس الأعلى للقضاء، الذي هو المشرف على تعيين القضاة وترقيتهم، مما يطرح أسئلة جوهرية حول مدى استقلالية القضاء الفعلية عن السلطة التنفيذية. أما الجانب الثاني، فيبدو في التحول الجذري الذي مس القضاء في مفهومه ووظيفته في العقدين الأخيرين، بحيث اخترق المجال السياسي بقوة وأصبح متحكماً في بعض مشمولاته. فالقانون الدولي الذي كان "ريمون ارون" ينعته بـ"القاصر" أصبح قانوناً مكتملاً وشاملًا، والقانون الدستوري الذي لم يكن يتجاوز نظرية الفصل بين السلطات تحول إلى نسق مكين وواسع يستوعب كل الحقوق الأساسية ويتأسس على مدونة حقوق الإنسان المتسعة الدلالة والمضامين. أما القانون الجنائي، فقد تعولم، وأصبح في ما يتصل بحقوق الإنسان يتجاوز مبدأ "السيادة" الذي هو معيار العلاقات الدولية الحديثة. وقد أصبح الهدف الأساسي الأول للقضاء هو السياسي، بدءا من فضيحة "مونيكا لونيسكي" في الولايات المتحدة أيام الرئيس "كلينتون" إلى محاكمة برلسكوني ومساءلة شيراك. والسؤال المحوري الذي لا بد من طرحه هنا هو: ما هو مصدر سلطة القاضي في الشأن السياسي؟ هل يستمدها من كونه مطبقاً للقانون الصادر عن إرادة الأمة، أو من موقعه كسلطة ثالثة كاملة الصلاحيات تنفرد بكون أحكامها النهائية غير قابلة للنقض؟ ليس النقاش بالجديد، ذلك أن عبارة "السلطة القضائية" نفسها مثار جدل واعتراض، باعتبار أن القضاء بالمنظور الديمقراطي الحديث هو مجرد تنفيذ لقوانين ليس لها في ذاتها قداسة ذاتية، وإنما تصدر عن محض إرادة وتقدير ممثلي الشعب (في مقابل مذهب الحق الطبيعي بمقارباته اللاهوتية والفلسفية القديمة). بيد أن الواقع يبرهن أن القاضي ليس مجرد منفذ ميكانيكي لقوانين جاهزة وصريحة، بل يتمتع على الأقل بسلطتين لا تخولهما له النظرية الديمقراطية وهما:سلطة التأويل التي تتحول إلى أهلية للتشريع في بعض الحالات، وسلطة التقدير والتكييف التي من الصعب إخضاعها لمعايير موضوعية دقيقة. والمشكل المطروح سياسياً هو ما بينه الفيلسوف والأديب الفرنسي "تزتفان تودروف " في مقالة مهمة بصحيفة "لموند"(15 نوفمبر 2009) من كون الديمقراطية الليبرالية تقوم على شكلين من أشكال الاستقلالية الذاتية، هما من جهة "سيادة الشعب" التي تضمن المساواة بين المواطنين والدفاع عن الخير المشترك، ومن جهة أخرى حرية الأفراد ضمن دائرة شخصية لا تخضع لأي رقابة جماعية. فبأي حق يقتحم القضاء حرية الأفراد من منظور الحق الجماعي ودائرة المجال العمومي المشترك؟ وما هي شرعية الحكم القضائي، الذي لا يستند لبند قانوني واضح وصريح؟ وهل يمكن للقضاء أن يقول كلمة الفصل في القضايا السياسية التي يطبعها الالتباس ضرورة ومن الصعب التزام الحياد والتجرد إزاءها؟ وهل يمكن للقضاء أن يفتك سلطة العقوبة التي يمارسها الشعب عن طريق عملية الاقتراع والعزل السيادية؟ اذا كانت هذه الأسئلة ليست بالجديدة، وقد طرحت في التقليد الليبرالي منذ مونتسكيو وديكتوفيل ، إلا أنها تطرح اليوم بحدة كبيرة ومن منطلقات غير مسبوقة، وعبر عنها فيلسوف القانون "فليب رينو" بعبارة "الانفصام المتزايد في الثقافة الديمقراطية بين القانون والقوة". فالنسق القضائي يواجه اليوم مأزقين هما من جهة تفكك المجتمع ومن جهة أخرى عجز التشريع الناتج عن هذا التجزؤ. فمسار تفكك الهويات الجماعية (الأسرة، المصنع، الحزب والنقابة....) يولد أنماطا جديدة من التشريعات لا بد من مراعاة حقوق الأقليات والتقسيمات الجديدة (المجموعات الثقافية والجنسية والاجتماعية ...)، مما يطرح أسئلة نظرية معقدة من قبيل مشكل نفي المجموعة السياسية كدائرة المواطنة المشتركة والوحدة الجوهرية للإنسانية. أما القانون فيتحول من هذا المنظور إلى مجرد كابح للسياسة وللقوة، بالنظر لتعدد وتشتت حقول انطباقه العملية. وهكذا يتحول الشأن السياسي إلى مجال مفضل للقضاة الذين فقدوا السيطرة على الرهان الاجتماعي.