وفرت الزيارة التي قام بها الرئيس أوباما لقارة آسيا، فرصة طيبة بالنسبة له لالتقاط الأنفاس في خضم الأزمات المستمرة التي يواجهها، سواء في الداخل الأميركي أم في الشرق الأوسط الكبير. ولقد حفلت الزيارة بالعديد من المفاجآت، بيد أنها كانت في المجمل حدثا إيجابيا، ما في ذلك شك. علاوة على ذلك، أكد أوباما خلال تلك الزيارة على عمق الروابط بين الولايات المتحدة، واليابان، وكوريا الجنوبية، كما قدم الأدلة التي تثبت أن الصين تمثل دولة ذات أهمية كبرى لأميركا والعالم في الوقت الراهن، وفي نفس الوقت أعاد التأكيد على اهتمامه الشخصي الخاص بقارة آسيا التي قضى أربع سنوات من طفولته في إحدى دولها وهي إندونيسيا. وقال أوباما إنه ينوي القيام بزيارة خاصة إلى ذلك البلد لقضاء إجازة فيه هو وأسرته في العام المقبل. وقد اختار أوباما -عن قصد- اليابان كي تكون هي المحطة الأولى في رحلته الآسيوية. يرجع ذلك لرغبته في الالتقاء برئيس وزرائها الجديد "يوكيو هاتوياما" الذي حقق حزبه، "اليابان الديمقراطي"، انتصاراً ساحقا على الحزب الليبرالي الديمقراطي الذي حكم اليابان منذ خمسينيات القرن الماضي، وذلك في الانتخابات التي جرت في شهر مايو من العام الحالي. وعقب تلك الانتخابات، كانت هناك مخاوف في الولايات المتحدة من احتمال أن يكون رئيس الوزراء الياباني الجديد، أقل تعاونا من سلفه بشأن موضوع العلاقات الدفاعية مع الولايات المتحدة، والذي كان يثير قدرا كبيرا من الحساسية على الدوام، خصوصا عندما كان الأمر يتعلق بالقاعدة العسكرية الأميركية في" أوكيناوا". وعلى الرغم من ذلك، لم تقع أحداث لافتة أثناء الزيارة باستثناء التصريح الجريء الذي أدلى به "أوباما" وقال فيه إنه أول رئيس أميركي مولود في ولاية أميركية مطلة على المحيط الهادئ. وكان نص ما قاله: "إنني رئيس أميركي ولدت في هاواي، كما عشت في إندونيسيا عندما كنت طفلا... وهذه الخلفية هي التي ساعدت على صياغة رؤيتي للعالم". وكانت خطوة أوباما التالية هي سنغافورة التي زارها من أجل حضور قمة التعاون الاقتصادي الآسيوي- الهادي(APEC) التي تجنب فيها مرة أخرى الدخول في أي خلافات كبرى مع المشاركين، على الرغم من حضور بعض أعضاء حكومة ميانمار في تلك القمة. كانت تلك القمة قصيرة من حيث مدتها، ومعظم التبادلات اللفظية التي وقعت فيها تمت في الأروقة وليس في قاعة الاجتماعات الرسمية. كانت الصين هي أبرز ما في رحلة أوباما من حيث الأنشطة التي حظيت باهتمام إعلامي مكثف. فأوباما بذل جهداً كبيراً من أجل ألا يفهم الصينيون أن أحاديثه تحمل أي قدر من النصائح والوعظ بشأن نظامهم السلطوي، أو بشأن ملف حقوق الإنسان. وأوباما فعل ذلك، لأنه يدرك جيدا أن الصينيين يحتفظون بمقادير هائلة من العملة الأميركية، وأن بلاده تعتمد على نمو الصين الاقتصادي للمساعدة في انتشال العالم من بحر الركود. وقد لوحظ أن الصين ظلت متمسكة بوجهة نظرها بشأن العقوبات على إيران على الرغم من شدة الضغط الذي مارسته الولايات المتحدة عليها من أجل تعزيز العقوبات المفروضة على إيران. ويعتقد الصينيون أن فرض عقوبات جديدة على إيران، أو تشديد العقوبات القائمة حاليا سوف يكون مآله الفشل. فنظرا لاعتماد الصين المتزايد على الطاقة المستوردة من الشرق الأوسط، فإنها تخشى من أن تؤدي أي أزمة جديدة بشأن إيران، إما إلى تعطيل إمدادات النفط والغاز، أو -وهذا هو الاحتمال الأكبر- أن تؤدي إلى ارتفاع الأسعار. أما آخر محطة في رحلة أوباما فقد كانت كوريا الجنوبية. وقد شهدت تلك الزيارة العديد من المظاهر الاحتفالية، ولم تكن هناك خلافات حادة بين الدولتين بشأن أسلوب التعامل مع كوريا الشمالية. فالرئيس الأميركي قال إنه سيرسل مبعوثه الخاص، "ستيفن دبليو باوسورث"، إلى بيونج يانج في شهر ديسمبر المقبل لإقناع حكومة كوريا الشمالية بإعادة المشاركة مجددا في المحادثات السداسية حول ملف نزع أسلحتها النووية، والتي كانت قد انسحبت منها منذ فترة من الوقت. وقد أشارت مصادر وثيقة الصلة بحكومة كوريا الجنوبية إلى أن سيؤول تؤيد النهج الأميركي في التعامل مع جارتها الشمالية. والإطار الجيوبوليتيكي لزيارة الرئيس أوباما كان من المحتم أن يشهد تناولا، وتفاوضاً حول الموضوعات قصيرة الأمد مثل اللاتوازنات التجارية، والركود الاقتصادي، والبرامج النووية الكورية الشمالية والإيرانية. أما الصورة الأكبر حجماً على المدى الطويل، فتتعلق بالجوانب الجيوبوليتيكية المتغيرة للقارة الآسيوية. فأهم حلفاء أميركا في المنطقة الآسيوية، وهما اليابان وكوريا الجنوبية، يشعران بقلق عميق بسبب تعاظم القوة الصينية. وعلى الرغم من حقيقة أنهما يرغبان في التعامل تجاريا مع بكين إلا أنهما يشعران بالقلق في الوقت نفسه، من احتمال تخلي الولايات المتحدة -في سبيل سعيها لزيادة التعاملات مع بكين- عن التزاماتها ومسؤولياتها الأمنية تجاههما. وتخشى بعض الدوائر في الصين من أن يؤدي تخلي أميركا عن مسؤولياتها والتزاماتها بشأن أمن القارة الآسيوية إلى دفع اليابان إلى بناء مشروعها الخاص لتصنيع أسلحة نووية. وأكثر الأشياء إثارة لقلق جميع الأطراف المعنية بهذه المسألة هو انفجار كوريا الشمالية من الداخل في لحظة معينة، ولجوء المسيطرين على زمام الأمور فيها في ذلك الوقت لإشاعة الفوضى وعدم الاستقرار على حدودها المشتركة مع الصين وكوريا الجنوبية في وقت واحد. وهناك مخاوف أقل حدة من أن تؤدي أي عملية إنهاء سلمي لديكتاتورية كوريا الشمالية إلى توحد الكوريتين معا، وذلك من خلال استيلاء الجنوب على الشمال، بنفس الطريقة التي تم بها استيعاب ألمانيا الشرقية في دولة موحدة منذ عشرين عاما على وجه التحديد. فوجود كوريا موحدة وقوية يمكن أن يؤدي إلى تغيير ميزان القوى في المنطقة، بطرق لا يمكن التنبؤ بها. ما يمكن قوله باختصار هو أن الآسيويين لا يزالون يريدون من الولايات المتحدة أن تلعب دوراً رئيسياً في أمن المنطقة. يرجع ذلك لحقيقة أن الآسيويين ولأسباب عدة يشعرون أنه في أعقاب انتهاء الحربين الدائرتين حاليا في العراق وأفغانستان، قد تصبح الإدارات الأميركية القادمة أقل ميلا لبذل الدماء وضخ الأموال في الدفاع عن آسيا، وأكثر رغبة في البدء نتيجة لذلك في عملية انسحاب بطيء لكنه حتمي من المنطقة برمتها.