ليست الدبلوماسية بالمهمة السهلة، فهي ترجع إلى عصور قديمة وتكاد تضاهي أقدم المهن التي شهدتها الإنسانية، لكن مع ذلك تحيط بها الكثير من الصور النمطية السلبية، كما أن سمعتها ليست إيجابية في جميع الحالات، إذ كثيرا ما تخلط بالجاسوسية، ناهيك عن ارتباطها على مدى سنوات طويلة بالمؤامرات والمكائد. ولتبدبد هذه الأفكار والتصورات المغلوطة التي تحوم حول العمل الدبلوماسي ومهام السياسة الخارجية بصفة عامة يتصدى الدبلوماسي البريطاني والسفير السابق لبلاده لدى الولايات المتحدة، "كريستوفر مير"، لجلاء الغموض والدفاع عن الدبلوماسية باعتبارها أحد الأذرع الأساسية لحماية المصالح الوطنية في كتابه الذي نعرضه هنا، وعنوانه "شق طريقنا: 500 سنة من المغامرة والمكيدة: قصة الدبلوماسية البريطانية من الداخل"، يلخص فيه تجربته في المجال الدبلوماسي كما يستحضر التاريخ الدبلوماسي البريطاني. يبدأ الكاتب بتقييم المكانة المهمة التي تحتلها الدبلوماسية البريطانية في الخريطة العالمية، فرغم التصورات السلبية التي تثقل كاهل الدبلوماسيين وتثبط عزيمتهم أحياناً، يقول المؤلف إنها مازالت تحظى باحترام وتقدير عالمي كبير لمنهجها القائم على البراجماتية من جهة والخبرة من جهة أخرى، وهي السمعة التي يعترف المؤلف أيضاً أنها تعرضت لاهتزاز في السنوات الأخيرة بالنظر إلى العديد من المشاكل ليس أقلها تقليص الميزانية المخصصة للدبلوماسية الخارجية وتدخل أطراف خارجية في عملها. ويستند الكاتب في تقييمه للدبلوماسية البريطانية بالحديث عن تجربته الشخصة، فقد انضم إلى السلك الدبلوماسي عام 1966 وكان في الـ22، مشيراً إلى الطريقة الخاصة التي يُستقطب بها الدبلوماسيون للعمل في الخارجية البريطانية، إذ خلافاً للدول الأوروبية التي استحدثت مدارس وأكاديميات خاصة لتلقين أصول العمل الدبلوماسي وفنونه، تعتمد بريطانيا على جامعاتها دون أن تعتمد على تخصص بعينه، اللهم إلا كليات اللغات التي ترفد المصالح الخارجية بعدد غير قليل من خرجيها، حيث تعتمد المدرسة الدبلوماسية البريطانية على تلقين دبلوماسييها الجدد في الميدان واحتكاكهم اليومي مع المهام الموكلة إليهم. وللتدليل على المكانة الرفيعة التي تحظى بها التقاليد الدبلوماسية البريطانية، يسوق ما أخبره به أحد الدبلوماسيين اليابانيين في طوكيو عندما أكد له أنه درس التجارب الدبلوماسية للعديد من البلدان الأوروبية بهدف استخلاص الدروس والاستفادة من النماذج الأجنبية لتطوير دبلوماسية بلاده، فلم يجد أفضل من الدبلوماسية البريطانية. لكن الكاتب لا يقتصر فقط على الإشادة بالدبلوماسية البريطانية وإغداق المديح على تقاليدها العريقة، بل يكشف أيضاً أخطاءها والصعوبات التي اعترضت مسيرتها في السنوات الأخيرة والتي يرجعها أساساً إلى تدخل باقي القطاعات الحكومية في العمل الدبلوماسي واعتماد السياسة الخارجية على المتعاقدين الخارجيين والمستشارين الخاصين، فضلا عن نزوع بدأ يتكرس في الفترة الأخيرة بإدخال أساليب إدارة الشركات والقيادة إلى العمل الدبلوماسي وتهميش موظفي وزارة الخارجية لصالح باقي الإدارات الحكومية التي بدأت هي الأخرى تدلي بدلوها في رسم السياسة الخارجية للبلاد، وهو ما يتحفظ عليه الكاتب ويرفضه. فقد برزت في السنوات الأخيرة قوة وزارة التنمية الدولية التي تتوفر على ميزانية تفوق بثلاث مرات ميزانية وزارة الخارجية، ناهيك عن تدخل مكتب رئيس الوزراء في تحديد أولويات الدبلوماسية البريطانية وتراجع تأثير وزير الخارجية لصالح رئيس الوزراء الذي احتكر العديد من المهام الدبلوماسية لنفسه. ولتحقيق الدبلوماسية لدورها الذي يوضحه المؤلف في عنوان الكتاب، والمتمثل في شق البلاد لطريقها على الساحة العالمية وصيانة المصالح العليا للبلاد، يحدد مجموعة من المتطلبات التي يتعين توفرها في الدبلوماسي المحنك حتى يضطلع بدوره؛ من بينها ضرورة توفر الدبلوماسي على الفضول المعرفي والرغبة في الإحاطة بدول أخرى وفهم تقاليدها، وأن يبدي اهتماماً كبيراً بقضايا السياسة الخارجية والمسائل المهمة التي تشغل العالم، بالإضافة إلى استعداد الدبلوماسي للعمل خارج بلده وقضاء فترة طويلة بعيداً عن وطنه وأهله، دون أن ينسى مهارات التفاوض والتحليل ورفع التقارير الدقيقة والمفصلة لأصحاب القرار... محذراً من بعض الأخطاء القاتلة التي قد يقع فيها الدبلوماسي، مثل التماهي مع مصالح البلد الذي يعمل فيه لدرجة إهدار مصالح بلده. لكن الكاتب ينتقد على وجه الخصوص ما يسميه غزو المجالات الأخرى للدبلوماسية، فرغم اعترافه بضرورة انفتاح العمل الدبلوماسي على تخصصات أكاديمية أخرى ترفده بالمعرفة وأساليب العمل الجديدة، فإنه يتحفظ على الطريقة التي بات يدار بها العمل الدبلوماسي والذي يشبه في كثير من جوانبه عمل رجال الأعمال والشركات، مشدداً على الاختلاف الكبير بين المجالين، فبإطلالة سريعة على الموقع الإلكتروني التابع لإدارة الخدمة الخارجية البريطانية، وهو ما يعادل وزارة الخارجية، تطالع المتصفح عبارات مثل "الابتكار" و"القيادة" و"التفكير الإيجابي" وغيرها من المصطلحات والعبارات الوافدة من مجال الإدارة، في حين يستند العمل الدبلوماسي إلى التفكير المنطقي والشعور بالمسؤولية، محذراً من تحويل السياسة الخارجية إلى إحدى الشركات العالمية. زهير الكساب الكتاب: شق طريقنا: 500 سنة من المغامرة والمكيدة: قصة الدبلوماسية البريطانية من الداخل المؤلف: كريستوفر مير الناشر: ويدنفيلد أند نكلسون تاريخ النشر: 2009