فيما عدا بعض الاستثناءات النادرة جداً، يصعب وجود شخصية احتلت كل هذا القدر والمكانة في تاريخ أمتها والمسرح العالمي كله، مثلما هي شخصية القائد البريطاني وينستون تشرشل. وقلما جمعت شخصية واحدة تلك المهارات والوجوه المتعددة التي عرف بها تشرشل: فهو خطيب مفوه وكاتب بارع في استخدام اللغة، إلى حد جعل كثيراً من أقواله ما يشبه المأثورات والأمثال السائرة، بل أهلته هذه المهارة لانفراده بنيل جائزة "نوبل" للآداب، بين كافة رؤساء وزراء بلاده إلى اليوم. وهناك مهاراته القيادية الحربية والسياسية الفذة أيضاً. وفوق ذلك كله كان تشرشل رساماً وملوناً بارعاً. فكيف جمع بين كل هذه الأدوار والمواهب معاً؟ كيف مارسها مجتمعة وبقدر عال من البراعة طوال ستين عاماً من الزمان؟ يحدثنا المؤرخ البريطاني بول جونسون مؤلف هذا الكتاب، عن أن تشرشل كان جندياً ثم برلمانياً ثم رئيساً للوزراء ووزيراً للحرب والمالية قبل ذلك، وعن أنه تبادل هذه الأدوار مجتمعة خلال ستة عقود حافلة بالعمل والعطاء. رغم كثرة المؤلفات التي تناولت سيرة تشرشل إلا أنه من رأي جونسون أن شخصية صاحبها لا تزال بحاجة إلى مزيد من التحليل والدراسة، خاصة وأنها شخصية مركّبة متعددة الوجوه شديدة التعقيد. يتناول المؤلف سيرة حياة تشرشل بعد أن قسمها إلى مراحل كما يلي: طفولته ونشأته في كنف عائلة مسيسة، مغامرات تشرشل المبكرة خارج حدود بلاده إثر التحاقه بالجندية، طموحاته السياسية وصعود نجمه البرلماني، خدمته العسكرية خلال سنوات الحرب العظمى، نفيه بعد الحرب، نشاطه ومقاومته الخطر النازي، توليه رئاسة الوزراء ودوره القيادي طوال سنوات الحرب العالمية الثانية، خريف عمره السياسي وتنبؤاته الخاصة بالحرب الباردة. وبالطبع لا يسرد المؤلف سيرة حياة سياسية حربية مجردة ومفرغة من بعدها الشخصي الإنساني. ويحدثنا عن أن من أهم الخصائص التي جعلت تشرشل قائداً فذاً، ذلك المزيج الغريب بين المرونة المذهلة وثورات الغضب وحدّة المزاج التي عرف بها في مختلف مراحل حياته. كما عرف تشرشل برفعة طموحاته وتكبده مشاق العمل والمثابرة الجادة من أجل تحقيق تلك الطموحات والأهداف. ومن بين كافة شخصيات وقيادات القرن العشرين البارزة، كان تشرشل بمثابة خير عام للبشرية جمعاء، كما يقول المؤلف. وفي هذه الشخصية وجد المؤلف ما يحفزه ويسعده في البحث والدراسة. فتشرشل -والحديث للمؤلف- يمثل أفضل قدوة يمكن أن يتعلم منها شباب اليوم، خاصة فيما يتصل باغتنام الفرص وتحقيق النجاح الذي يطمحون إليه. ومن شخصية تشرشل وسيرته يمكن لشباب اليوم أن يتعلم الكثير من مهارات التواصل مع الآخرين، بما في ذلك تطوير الذات وصقلها وتشذيبها بحسن السلوك والخصال. هناك محطات رئيسية مر بها تشرشل خلال حياته (1874- 1965). فقد عمل ضابطاً بفرقة الخيالة الملكية في شبابه الباكر، وهي نفس الفترة التي أمضى جزءاً منها جندياً في الهند والسودان، وقاتل في حرب البوير الثانية. وشملت مغامراته تلك أداء الخدمة العسكرية في كل من كوبا وجنوب إفريقيا والجبهة الغربية. ثم التحق بعضوية البرلمان في عام 1899 ليعمل بعدها بعقد من الزمان، جنباً إلى جنب لويد جورج على إجازة إصلاحات 1908-1911. وعند نيله لقب لورد أول لسلاح البحرية الملكي، بذل تشرشل جهداً كبيراً في إعداد سلاح البحرية للحرب العالمية الأولى، لكنه خسر ذلك المنصب عقب غزوه الكارثي لمياه الدردنيل عام 1915، فعاد ليصعد مجدداً ويعتلي أعلى المناصب بعد عامين، حيث بقي حتى بدايات فترة الكساد العظيم في أوائل الثلاثينيات. وقبل توليه منصب رئيس الوزراء لولايتين منفصلتين، بدأت أولاهما في مايو 1940، عمل تشرشل وزيراً للحرب ووزير دولة للدفاع الجوي، إضافة إلى توليه منصب وزير مالية حكومة حزبه المحافظ. خلال ولايته الأولى قاد تشرشل بلاده إلى الانتصار على دول المحور في الحرب العالمية الثانية. لكنه خسر انتخابات عام 1945 ليعود ثانية إلى المنصب في انتخابات عام 1951، ثم تقاعد نهائياً عن العمل السياسي في عام 1955. ويلاحظ أن هدفاً رئيسياً لمؤلف هذا الكتاب هو الإيحاء بسيرة تشرشل للشباب البريطاني اليوم، نظراً لغنى هذه السيرة الذاتية بالإلهام والدروس التي يمكن تعلمها في مسعى تطوير الذات وفتح آفاق واسعة للطموح الشخصي، مصحوباً بالعمل الجاد من أجل تحقيقه. ولهذا السبب فمن المفهوم أن يطغى التقريظ وحده للشخصية موضوع الدراسة والقدوة والمثل. لكن أليس من الموضوعية التطرق لجملة المثالب والانتقادات التي وجهت إلى تشرشل؟ هل كانت صورته زاهية ومنزهة عن الخطأ إلى هذا الحد؟ ذاك هو السؤال الذي كان على المؤرخ الباحث أن يضعه في الاعتبار. عبدالجبار عبدالله الكتاب: تشرشل المؤلف: بول جونسون الناشر: مجموعة بنجوين للطباعة والنشر تاريخ النشر: 2009