بعد ليلة عاصفة بالتباينات والخلافات وتضارب الحسابات، تمخض اجتماع القادة الأوروبيين في بروكسل، ليل الخمس -الجمعة الماضي، عن الوصول إلى المرحلة التالية من مسيرة اندماج فضائهم الإقليمي، ألا وهي اختيار رئيس للاتحاد الأوروبي في نسخته الجديدة المطورة. فأخيراً، حصل التوافق بشأن النقطة الخلافية العالقة، ووقع اختيار القادة المجتمعين على السياسي ورئيس الوزراء البلجيكي "هيرمان فان رومبي"، ليصبح أول رئيس للاتحاد الأوروبي، تزامناً مع دخول معاهدة لشبونة حيز التنفيذ في الأول من ديسمبر القادم. وقد مثّل الاتفاق على رومبي حلا وسطاً بين الإرادات الأوروبية بعد ما تعاندت حول أسماء حاولت الدفع بها نحو المنصب الجديد. فهو أولا بلجيكي، ومعلوم أن بلجيكا، رغم كونها مقر الاتحاد الأوروبي، لا تمثل قطب تأثير رئيسيا في قراراته وخياراته، مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا. وهو ثانياً اقتصادي معروف وسياسي عريق استطاع إخراج بلاده من أزمة داخلية عويصة لدى توليه رئاسة وزرائها، فضلا عما له من دور في تثبيت منظومة الاتحاد الأوروبي وترسيخها. ولد هيرمان فان رومبي عام 1947 في "إيتربيك" بولاية بروكسل العاصمة، لوالده "فيك" الذي كان أستاذاً للاقتصاد. وتلقى تعليمه بمدرسة "سينت جان بيرشمانس" في بروكسل، وتخرج من جامعة "لوثين" الكاثوليكية بشهادة في الاقتصاد عام 1971، وفي العام التالي بدأ حياته العملية بقسم الدراسات في "البنك الوطني"، ثم عمل بديوان رئيس الوزراء بين عامي 1975 و1978، ومنه تنقل بين عدة مناصب توّجها تعيينه وزير دولة للمالية والمشروعات الصغيرة والمتوسطة عام 1988. وفي العام نفسه فاز بعضوية مجلس الشيوخ، وعُين في سبتمبر 1993 وزيراً للميزانية ونائباً لرئيس الوزراء، حيث بقي ست سنوات استطاع خلالها تخفيض العجز في الميزانية وتقليص الدين العام. وكان رومبي قد انتخب عام 1995 عضواً بغرفة النواب في البرلمان الفيدرالي، وحين غادر الحكومة عام 1999، انضم للمعارضة البرلمانية، لكنه أصبح بداية من عام 2004 وزير دولة في حكومة "غوي فيرهوفستاد"، إلى أن انتخب رئيساً لمجلس النواب عقب الانتخابات العامة في يونيو 2007. ولعب رومبي دوراً محورياً في التفاوض لإنهاء الأزمة التي أعقبت الانتخابات، خاصة بعد أن اختاره الملك ألبيرت الثاني في سبتمبر من ذلك العام لموافاته بتقييم شامل حول أسباب الأزمة والصعوبات التي تحول دون تشكيل الحكومة. وكانت الأحزاب الليبرالية والاجتماعيون المسيحيون قد قرروا تشكيل حكومة ائتلافية، لكن رغم أغلبيتهم البرلمانية لم يستطيعوا تكوين الحكومة مما أدخل البلاد في أزمة غير مسبوقة، فاضطر الملك إلى إعادة تكليف رئيس الحكومة المنصرف "فيرهوفستاد". لكن أيضاً حين استطاع "الديمقراطيون المسيحيون" تشكيل حكومة مع حلفائهم، برئاسة "إيفس ليتيرم"، في مارس 2008، لم تلبث أن استقالت في يوليو من العام نفسه، وسط جدل وأسئلة كثيرة حول إمكانية بقاء بلجيكا دولة موحدة. ويذكر أن بلجيكا دولة فيدرالية ذات نظام ملكي دستوري، تتكون لغوياً وإثنياً من قوميتين رئيسيتين: "الوالون" في الجنوب، ويتحدثون اللغة الفرنسية، و"الفلامان" في الشمال، ويتحدثون اللغة الهولندية. وإلى هذه الأخيرة ينتمي رومبي، كما ينتمي سياسياً إلى الحزب الأكبر في أقاليم "الفلامان"، وهو "الحزب الديمقراطي المسيحي الفلمنكي" الذي يمتلك أكبر كتلة في البرلمان الفيدرالي. وعلى هذا الأساس قرر الملك أن يكلف أحد قادته، وهو رومبي نفسه، بتشكيل الحكومة في ديسمبر 2008، ليصبح رئيس الوزراء الـ48 لبلجيكا. وبالفعل استطاع تشكيل الحكومة، وتهدئة الأوضاع بين "الوالون" و"الفلامان"، ونجح في إعادة الانتعاش الاقتصادي، وأثبت قدرته على إدارة التحالفات الصعبة. وقد انتسب رومبي مبكراً إلى "الحزب الديمقراطي المسيحي الفلمنكي"، وأصبح نائب رئيس لجنة الشباب فيه عام 1972، ثم عضواً في مكتبه السياسي بداية من عام 1978، ورئيساً لمركز الدراسات التابع له عام 1980. وأخيراً انتخب لرئاسته في الفترة بين عامي 1988 و1993. ولا يمكن فصل مسيرة رومبي نحو مواقع القيادة في الحزب، عن مسيرة صعوده عبر مراتب العمل الحكومي، والتي توجها أخيراً بتبوئه منصب رئيس الوزراء، والذي يتعين عليه الآن أن يستقيل منه قبل نهاية الشهر الجاري، ليصبح أول رئيس لـ"الاتحاد الأوروبي الجديد". وبالطبع فإن اختياره لذلك المنصب لم يمر دون مصاعب، بل مثل تحدياً لقادة الدول الـ27 الأعضاء في الاتحاد، والذين انقسموا طيلة عدة أسابيع حول الأسماء المرشحة للمنصبين اللذين استحدثتهما "معاهدة لشبونة"، وهما الرئيس الدائم للاتحاد، وممثله للسياسة الخارجية. لكن عقبات الاختيار تضاءلت حين اتفق القادة على أن يكون شاغل المنصب الأول من اليمين الأوروبي، بينما يشغل مرشح يساري المنصب الثاني. ثم أصبح رومي المرشح الأقوى بعد أن أيدته فرنسا وألمانيا قبل أسابيع، وتم اختياره أخيراً حين تراجع براون عن محالته تأمين المنصب لسلفه بلير، مقابل أن تصبح العمالية البريطانية "كاترين أشتون" الممثل الأعلى لسياسة الاتحاد الخارجية. وكان قادة دول الاتحاد الأوروبي قد وقعوا "معاهدة لشبونة" في أكتوبر 2007، لإصلاح مؤسساته وعملية صنع القرار فيه، عوضاً عن الدستور الأوروبي الذي رفضته فرنسا وهولندا عام 2005. ونصت المعاهدة على إيجاد منصب رئيس يطلع بقيادة الاتحاد مدة عامين ونصف العام، قابلة للتجديد مرة واحدة، عوضاً عن الرئاسة الدورية نصف السنوية. هذا، ويضطلع رئيس الاتحاد بتمثيله خارجياً، والإشراف على إدارة قممه، وتنسيق سياساته الاندماجية، والعمل كحلقة وصل بين قادته. وإذا كان عدم تمتع رومبي بشهرة كبيرة تجعله شخصية تطغى على قادة أوروبا في المسرح العالمي، قد زادت من فرص فوزه بالمنصب، فالميزة ذاتها تفيده في إدارة مهمته الجديدة، كونه يأتي بلا ملفات أو عداوات سابقة، إذ لم يمكث طويلا في رئاسة وزراء بلاده. لكن ينتظر أوروبياً من رومبي أن يجعل معاهدة لشبونة منطلق مسيرة جديدة لاتحاد عملاق يحاول إثبات نفسه أمام مواطنيه وعلى الساحة الدولية! محمد ولد المنى