تأتي زيارة رئيس مجلس الشورى الإيراني (البرلمان) الثالثة من نوعها لرئيس من رؤساء إيران الكبار إلى العراق، بعد زيارة رئيس الجمهورية نجاد (فبراير 2008)، ورئيس تشخيص مصلحة النَّظام رفسنجاني (مارس 2009). جوبهت الزيارات الثلاث باعتراض وشجب، فعندما وصف رئيس الجمهورية جلال طالباني زيارة رفسنجاني بأنها خير عميم على العراق وأهله، انهالت التصريحات الشاجبة، مع أنها كانت عبارة مجاملة لا يؤاخذ عليها الطالباني، الذي لاحترافه المعارضة وما تتطلبه من الإخوانيات، لم يتمكن من مجاراة المنصب الجديد، حتى عمد الأقربون إلى تذكيره بما تتطلبه الرسميات، عندما يخرج مودعاً زواره، من مختلف الطبقات، إلى عتبة الدار. فالرجل ظل على سجيته، والنَّاس تعودت على الفخامة الرئاسية، والانتظار يوماً كاملاً بعد التجرد من الثياب، حتى ولو كانوا من المؤرخين من حجم: حسين أمين وأحمد كمال مظهر. لذا لم تخرج عبارة الطالباني لرفسنجاني عن هذا الطبع، مع أنه يعلم علم اليقين أن لا نجاد ولا رفسنجاني عملا على فتح جدول من عشرات الجداول والأنهار التي أغلقت على العراقيين، حتى اضطر الرئيس، لإسكات أفواه المطالبين بموقف من إيران بسبب الماء، إلى إبلاغ السفير الإيراني ببغداد بعطش العراقيين، وما حلَّ من خراب ببساتين النخيل والحناء الموصوف بها فاو البصرة، وآذان السفير ودولته واحدة من طين وأخرى من عجين. ومثلما أغضب إطراء رئيس الجمهورية لرفسنجاني، غَضِبَ الكثيرون على رئيس البرلمان أياد السامرائي في زيارته إيران، ثم استقباله داخل قاعة البرلمان نظيره الإيراني الإريجاني، وحينها سمع كلاماً من قبيل: إنه نسي آلام العراقيين من إيران! بينما انطلق السامرائي، من مباحثاته في زيارته لإيران وفي استقباله لرئيس برلمانها، من منصبه كرئيس للبرلمان، متحلياً بانفتاحه الشخصي ورؤيته البعيدة لما يجب أن يكون بين البلدين، وهما يشتركان حدوداً تبلغ 1200 كيلو متر، تمتد من أقصى الشمال الشرقي إلى أقصى الجنوب الشرقي. ليس بين يدي أياد السامرائي، والذي لا أجده يتعامل بانتمائه السابق (الإخواني) مع إيران، مثلما هم "إخوان" مصر و"حماس" مثلاً، سوى خوض الحوار مع الإيرانيين، فعراقه مثلما قلنا سابقاً "بيت العنكبوت" يطمع فيه كل طامع! يحاول بإطلالته الرسمية، بصفته سُنَّياً، إيصال رسالة إلى بلاد فارس أن العراق وأهله ليسا مثلما يظنون أنه سهل المنال بحكم الوضع الطائفي، إنما هو جاء متحدثاً باسم بلاد لا تغري فرقتها الطائفية الطارئة باحتواء طويل الأمد، وليس هناك ما يقلق الإيرانيين، إذا كانوا يظنون أنهم حماة الشيعة. وخلاف ما سعى إليه الرئيس الطالباني، في محاولة التظاهر للإيرانيين بحفظ العون السابق، يوم كان أركان السلطة الحالية في المعارضة، وما يسعى إليه رئيس البرلمان السامرائي أجد أكثر الساسة العراقيين متنافرين إلى قطبين، قطب يجد إيران الأفعى السامة، التي ما بينها والعراق تاريخ مثقل بالحروب، وأنها ترنو إلى مجد فارسي مازال أثره قائماً بطيسفون (المدائن)! وقطب يرى وجوده في هرم السلطة مرتبطاً بوجود إيران قوية ومقتدرة ومهيمنة داخل العراق، مهما فعلت وعملت تبقى هي صاحبة الفضل، ومثلما لو قدر القطب المتوتر ضد إيران على قلعها من الوجود لقلعها، كذلك لو قدر القطب المنبطح لها أن يكون العراق ولاية من ولاياتها لبارك واستحسن. لكن القطبين اللذين تحركا من دافع واحد هو الدافع الطائفي، ومن رؤية ضيقة غلب عليها القلق القاتل غير المبرر، لا يمثلان وجهة نظر أهل العراق، فالسُنَّي، مع اختلاف القومية، لا يجد في التوتر الدائم مع جار يحيط به من الشمال إلى الجنوب، ولا مفرَّ من جيرته، مصلحة على المستويات كافة، كذلك لا يرى الشيعي، وإن تجاذب في المذهب مع الإيرانيين، أن الارتماء في أحضان إيران إلى الدرجة التي يفكر بها عدد من السياسيين، مصلحة لبلاده، وقد تجد هذا الرأي بالنجف قبل غيرها من بلدات العراق. إزاء هذه الحال، لا بد من توسط، وخير الأمور أوسطها، في التعامل مع إيران، أن تكون جارة، لا تعامل معاملة خاصة منفردة في العداوة أو الصداقة، لكن هذا لا يتم إلا أن تتوافر سياسة وطنية عراقية، بعيدة عن المخاوف الطائفية والقومية المتبادلة، التي تنفلق فيها الكتل السياسية، داخل البرلمان العراقي، إلى عدو وحليف، وقد بان ذلك جلياً عند استضافة رئيس مجلس الشورى الإيراني في قاعة البرلمان، ووجوده إلى جنب السامرائي. وفي تلك اللحظة ترك القاعة القطب الغاضب من الزيارة محتجاً، وكان احتجاجاً مضمراً ليس للإريجاني بقدر من هو مضمر للسامرائي الذي يحاول إيجاد التوسط في العلاقة مع إيران. ليس لأحد نفي النفوذ الإيراني، منذ إبريل 2003 وحتى الآن داخل العراق، وعلى حدِّ تبريرها هي فإنه عبث وقائي من عدوها الذي خيمت عساكره على حدودها. وصحيح أن إيران تتعامل كثورة لا كدولة، وغزت بضاعتها السوق العراقي، تجد تمرها يباع بالبصرة ولوزها وجوزها بأربيل، وهما أرض النخيل وغابات الجوز واللوز! وإنها تتجاوز على الأرض العراقية بغلق مصبات المياه وبالتحرك نحو آبار النفط. لكن، هل كان هذا وراء ظهور نائب الرئيس طارق الهاشمي غاضباً من مباحثاته مع ضيفه الإريجاني، حتى صرح بعد انتهاء اللقاء، بأن المباحثات كانت متوترة وغير مريحة؟ أم هناك سبب آخر أعمق، من المفروض ألا يهيمن على نائب الرئيس في طرح مصلحة بلاده وشعبه في مباحثات رسمية؟ وهنا تأتي المفارقة بين الرئيس الذي يصف زيارة مسؤول إيراني بخير عميم على العراق، ونائبه الذي يصفها بغير المريحة! بينما جماعة أخرى تصف كل زيارة مسؤول إيراني بالتاريخية! إجمالاً، العلة ليست بإيران ولا دول الجوار، إنما العلَّة داخل السياسة العراقية، أقطابها متنافرو الآراء والقلوب والضمائر، وهم بين مشرق ومغرب، فاختلفت كلمتهم على مواجهة الإريجاني بين مرحب ومغاضب. أجد ما أنشده معروف الرصافي (ت 1945) صالحاً لزمن العراق الحاضر لا الماضي: "عفواً فذاك النجم أصبح آفِلاً... والقوم محتربون بعد أفوله... أما ترى قُطر العراق بحسنه... قد فاق مُقِفره على مأهوله" (الديوان، قصيدة شكواي العامة 1933).