اتفق الموقف الصيني والمصري، في الحاجة لعقد الملتقى الصيني- الأفريقي في شرم الشيخ في النصف الأول من نوفمبر 2009. فقد كانت الصين في حاجة لساحة خارج أرضها تدافع فيها عن قلق البعض من تمددها المفاجئ في القارة، والحملة الدعائية التي يغذيها الإعلام الغربي حول خطورة الصين ومطامعها في ثروات القارة الأفريقية، كما كانت مصر في حاجة أيضاً لمهرجان أفريقي كبير تثبت فيه أنها لا تتجاهل أفريقيا كما يقول البعض، وأن مكانتها ليست أقل من مكانة قوة كبرى عالمية في أفريقيا مثل الصين. بل وجاءتها الرياح بما تشتهيه، ممثلة في إقبال رؤساء مهمين لها الآن على الحضور إلى هذا المؤتمر، بوصول معظم رؤساء دول حوض النيل، إثيوبيا- أوغندا- تنزانيا- رواندا- الكونغو- السودان، وذلك في ظروف يحتد فيها الحوار حول مياه النيل، واتفاقيات المياه مع دول حوض النيل... ولذا كاد الإعلام المصري يفرد لهذه اللقاءات، مساحة أكبر من تلك الخاصة بالحديث حول اللقاء مع الصينيين، ولعبت الصور المبهرة في شرم الشيخ، وهو الموقع الذي يبدو خارج الإطار المصري التقليدي في القاهرة، مما جعل صور الحفاوة إضافة قوية بذاتها لصور المصالح المتحركة في جعبة الجميع. بدأت الصين حملتها كما هو منتظر بلغة الأرقام، والأنظار تتجه إلى حجم تجارة الصين مع أفريقيا الذي تزايد عشرة أضعاف في أقل من عقد من الزمان! بدأ الرقم مثيراً "للأحقاد" إذ بلغ أكثر من مائة مليار دولار بين 2001-2009. ولكن الصين سارعت بالرد بأنها ليست مثل غيرها تستنزف ولا تعطي، فحجم صادراتها للقارة إن كان قد بلغ 51 مليارا فإن وارداتها منها تصل إلى 56 مليارا، وبالأسعار العالمية بالطبع. ومعنى ذلك أنها أكثر توازناً من غيرها في هذا المجال، تبلغ استثماراتها فيها حوالى 6 مليارات دولار. هنا رقم غير ملفت كثيراً إذا علمنا أن مجمل استثمارات الصين خارجها تصل لحوالى 140 مليار دولار. ومن ثم يضع ذلك علامة استفهام أمام استفادة أفريقيا من الصين خارج نطاق سعي الصين للتجارة التي لا تفيد أفريقيا كثيراً. ذلك لأن المواد التي تأخذها الصين مواد معدنية وخاصة البترول، بينما حجم ورادات أفريقيا الكبيرة من الصين هي بضائع لا تفيد في تنمية صناعة أو أدوات إنتاجية في أفريقيا. من هنا بدأ الهجوم على الصين- من قبل وأثناء- مؤتمر شرم الشيخ، واضطر ذلك الجانب الصيني إلى إطلاق دفاعاته بالإشارة إلى القروض الميسرة في الفترة القادمة والتي قد تصل بين عشرة وخمسة عشر مليار دولار، بالإضافة لما سبق تقديمه في السنوات القليلة الماضية، والتي وصلت إلى 46 مليارا من الدولارات حتى عام 2008 على نحو ما ذكر رئيس الوزراء الصيني نفسه. تحاول الصين أن تعبئ المجموعة الأفريقية مجتمعة خوفاً من تسلل الحملات المعادية لها في كل موقع على حدة، وهو أسلوب لجأ إليه الآخرون مبكراً منذ مؤتمرات الكومنولث البريطاني والفرانكفونية الفرنسي، بل والأحدث كان القمة الأميركية الأفريقية (أجوا) منذ أواخر عهد الرئيس كلينتون وحتى الآن، وأعقب ذلك دعوات اليابان وكوريا وحتى تركيا لمؤتمرات مشتركة مماثلة، لكن كل ذلك لم يقنع "الإخوة العرب" بتكرار القمة العربية الأفريقية، التي سبقت معظم هؤلاء منذ اجتمع مؤتمرهم الأول عام 1977! الصين تخشى الهجوم الفردي على نحو ما بدأ في دول أفريقية كبرى مثل نيجيريا وجنوب أفريقيا أو صحافة كينيا القوية، وينضم إليهم مؤخراً القيادة الليبية، متهمة الصين بأنها إمبريالية جديدة بهجوم صيني اقتصادي مؤثر على إمكانيات تطور القارة! ويلفت النظر في الخط الهجومي الجديد على الصين أنه يمضي- دون إحساس بأي تناقض- على وتيرة التخويف السابق عقب الحرب الثانية، بأن "التنين الأصفر" الشيوعي المرعب في ذلك الوقت سوف يهدد السلام العالمي وتوازناته الجديدة في عصر العولمة المبكر، لذا فإن ما تواجهه الصين الآن أكثر من غيره، ليس هو الجانب الاقتصادي، وإنما الجانب السياسي والإعلامي الذي يخشى نهوض الصين الثاني، بالرأسمالية هذه المرة، بعد حملات الموجة الأولى على الصين الشيوعية. ومع ذلك فما يجب نقده في الصين ليس خطة نموها وإنما أدائها لهذا النمو تجاه الآخر مما يثير حملات منطقية أحيانا ضدها، فهي مثلًا تدعم حكماً في السودان عليه علامات استفهام عديدة من "المجتمع الدولي"، وتبدو علاقته بالصين وتأمين الصين له مقابل انفرادها بمجال البترول هناك مثيرة للجميع، ويقترب ذلك من علاقتها مع نظام زيمبابوي ومشاكل الرئيس موجابي عديدة، ومن سوء حظ الصين أيضاً أن تتجه استثماراتها "واستغلالها" لنظم غينيا (بعد الانقلاب) وغينيا الاستوائية والنيجر.. وكلها حكومات فاسدة أو انقلابية لا تلقى ترحيباً من الدول الأخرى. إن معظم مواقع الهجوم على الصين، وحجم الدفاعات الصينية يجعلنا أمام عودة فرعية للحرب الباردة في وقت تتصور فيه بعض الأقلام أن الصين مهما كانت "توسعاتها"، فهي من موقع الدول النامية أصلاً، وأنها مكسب لنهوض هذه الدول لا عليها، وإنها احتياطي لموقف صلب بين دول الجنوب مجتمعة لو أمكن الترتيب لذلك جيدا بتعاون متوازن مع الصين، وهذه الرؤية جديرة بالنظر طبعا، لو درسنا موقف الصين جيداً في المسائل الحيوية لبلدان الجنوب، أما انتظار مواقف مثالية الآن في ظل غياب الأيديولوجيات النهضوية الكبرى، قومية أو اشتراكية أو مثل ذلك، فإننا لا يمكن أن نتخذ مواقف دعائية فقط تدخل في إطار الحرب الباردة وليس في إطار الفكر السياسي حول بناء كتلة الجنوب، ويتصور مفكر مثل سمير أمين مستقبلًا لمثل هذا الجهد من خارج الصين، ومن داخلها أيضا عبر حوار متصل مع قوى داخل الصين تقف إلى جانب بناء تعاون استقلالي حقيقي مع شعوب الجنوب، ولا ينفي ذلك وجود قوى توسعية في الصين أيضاً لا تهتم إلا بالنمو الاقتصادي، هذا ما تصورت أن تشرع فيه قوى نهضوية عربية ذات تأثير اجتماعي، وثقافي وسياسي أحياناً في مصر وليبيا والجزائر، لصالح تعاون مثل ذلك الذي بدأ مع مؤتمر باندونج قديماً، وإنْ كان الزمان غير الزمان، والناس أيضاً. أما مصر المضيفة فقد كان مثل هذا المؤتمر مكسباً خاصاً لدبلوماسيتها بعيداً عن موضوعه الرئيسي. انشغلت مصر برؤساء دول حوض النيل من الحضور بأكثر ما انشغلت بالصين. فتجارتها مع الصين تكشف عن مشكلات التجارة والاقتصاد في مصر حيث تبلغ وإرادتها من الصين حوالي عشرة أضعاف صادراتها، ولا تزيد الاستثمارات الصينية عن 300 مليون دولار بما جعل النقد المصري (غير المفهوم باعتباره تقصيراً أيضاً) مضافاً إلى نقد الضيوف الآخرين تجاه الصين. ويبدو أن الإعلام المصري شعر بذلك بدوره فاقتصر على تحية من حضر من رؤساء حوض النيل ونشاط الرئيس المصري معهم، وبدت أحاديث المسؤولين المصريين في هذا الشأن "إغراء بمستقبل" التحرك المصري الأفضل تجاههم بعد غياب طال، وساهم في تعقيد العلاقات التاريخية السابقة...