المشهد السياسي للصراع الدائر في شمال اليمن وجنوب السعودية يعرف الجميع أبعاده ومنطلقاته ودوافعه، ويستطيع المراقب أن يصف المشهد بسهولة، فثمة حركة متمردة خرجت على الدولة اليمنية والمجتمع اليمني حاملةً للسلاح ومستخدمةً للعنف، وهذا بحدّ ذاته جريمة وجناية لا تغتفر. ليس هذا ما صنعته هذه الحركة المسلّحة المعتدية فحسب، بل إنّها بدأت بالتحرّش العسكري بجارة اليمن الكبرى "السعودية" عبر اختراق حدودها والتسلل خلالها، ومحاولة العبث معها بحرارة السلاح ومنطق القوّة وفرض الأمر الواقع. ليس هذا فحسب، بل إنّها وكما تعلم هي ويعلم الجميع مرتبطة بأجندة إقليمية معروفة، تسعى إلى صنع بؤرة للتوتر في كل مكان لأنّها تحسب أن تلك البؤر ستفيدها في خلق التوتر متى شاءت، وهي تسعى لخلق الأزمات في الصفّ العربي الذي تقف السعودية على رأسه، كما أنّها تجعل من زعزعة الأمن في السعودية والخليج هدفاً معلناً لها. كل هذا معروف ومكرور يعيه الكافّة ويدركه الجميع، تعيه الدول العربية التي أعلنت إنكارها للعدوان "الحوثي" وتدركه المنظمات الأهلية والجمعيات المدنية التي أعلنت نفس الإنكار، بل إنّ بعض فروع جماعة الإخوان المسلمين في العالم أعلنت استنكارها لهذا العدوان كما جاء في بيان "إخوان سوريا" ولندن والبحرين وغيرها، غير أنّ الفئة الوحيدة التي تدعي أنّها لا تفهم الوضع ولا تعلمه هي "جماعة الإخوان المسلمين" التنظيم الأم في مصر، وليتها كانت صادقةً في الجهل وعدم الوعي، فقد أخرجت الجماعة بياناً مغرضاً لا يفرّق بين الجاني والمجني عليه، ولا بين الجماعة المتمردة والدول القائمة والمعتبرة، لا عن جهل وقلة وعي بل عن خبث يحاول الاختباء خلف الدهاء السياسي، وهو أبعد ما يكون عنه. إن أوضح دليلٍ على أنّ هذا الموقف كان نتيجةً لخبثٍ سياسيٍ لا لجهلٍ وقلة وعيٍ، هو أنّ الموقع الرسمي للجماعة في الإنترنت نشر بتاريخ 30 أغسطس الماضي نقلاً عن مجلة "الفورن بوليسي" تقريراً يوضح أبعاد الفتنة الحوثية ما يدلّ على أنّ الجماعة تعمّدت وعن سبق إصرارٍ وترصدٍ الادعاء بعدم فهم ما يجري فأصدرت بيانها المشؤوم لابسةً حمول الضأن وكأنّها لا تعرف شيئاً! ينبغي أن نقرأ هذا الموقف من الجماعة في سياق مواقف سابقةٍ تبين الخط الذي تتبناه وتمشي عليه، فهي منذ قيام الثورة الإسلامية ترسل لها رسائل الودّ وقد أرسلت الوفود لتهنئتها على النجاح، وبقيت راسخةً على هذا الموقف الموالي للثورة الإسلامية، فدائماً ما تدافع عنها وتتلمس لها الأعذار، والأمثلة التاريخية على هذا كثيرة، أمّا الأمثلة المعاصرة القريبة فمنها الشتيمة الشهيرة لمصر من قبل المرشد العام للجماعة حين قال: "طز في مصر" في منتصف عام 2006، ومنها موقفه من خلايا "حزب الله" في مصر في منتصف هذا العالم، حين قال مدافعاً عن تغلغل خلايا الحزب داخل مصر: "كان الواجب على مصر أن تشكر حزب الله بدلا من أن تحقق مع الخليّة"، ومنها قوله في منتصف هذا العام أيضاً عن الأنظمة السياسية العربية إن "كلّ الأنظمة العربية أصبحت صهيونية أكثر من الصهاينة"، ومعلوم في هذا السياق -ورغم الكلام المعسول عن دور المملكة في بيان للجماعة- أنّ المملكة العربية السعودية هي نظام عربي أصيل وقائد. الأمر الذي ربما يخفى على غير المتابع، هو أنّ "الإخوان المسلمين" لم يزل يداعبهم حلم الاستيلاء على السلطة في اليمن منذ حسن البنّا والفضيل الورتلاني ذلك الجزائري الذي أرسله البنّا لليمن في مهمةٍ غامضةٍ وخطيرةٍ تهدف إلى إقامة دولةٍ للإخوان المسلمين في اليمن، وسعى هذا الورتلاني جهده لتحقيق هذا الهدف، وكان يحيك المؤامرات ضد نظام الإمامة في اليمن، ويخادع قادة الثورة ليصل لهدفه المرسوم، وربما داعب الجماعة اليوم أنّ فشل الورتلاني المباشر في تحقيق حلمهم يمكن استعادته بالتعاون مع القوى الإقليمية المعادية لليمن وللخليج وللعرب. كما تقدّم فعلى النقيض من بيان "إخوان" مصر جاء بيان "إخوان" سوريا واعياً بالمشهد مدركاً لأبعاده واضحاً في موقفه، يسمّي الأشياء بأسمائها ولا يغمغم ولا يتمتم، ولذلك قصة تستحق أن تروى في التفريق بين "إخوان مصر" و"إخوان سوريا" فيما يتعلّق تحديداً بالعلاقة مع الجانب الإيراني والعلاقة بالثورة الإسلامية في إيران، ذلك أنّ "إخوان سوريا" كان لهم أملٌ بأن الثورة الإسلامية في إيران ستقف في صفهم في صراعهم مع النظام السوري –آنذاك- وقد خاب ذلك الأمل في الثورة بعد انحيازها للنظام السياسي، وتركهم في العراء يواجهون النظام بمقدراتهم الذاتية، ما أبقى لديهم مرارة من الثورة الإسلامية وإيران، وتاريخ الصراع بين "إخوان سوريا" والنظام طويل وليس هنا مجال الإسهاب فيه وتفصيله، يبقى سؤال كبير يطلّ برأسه من بين غبار الزوابع المثارة واللغط الواسع، وهو سؤال عن موقف المنسوبين لـ"الإخوان" في السعودية، أولئك الذين اعترف بوجودهم مسؤولون سعوديون كبار، وعتب أحدهم عليهم أشد العتب في مناسباتٍ سابقةٍ لخيانتهم للثقة التي أعطيت لهم، كما أنّ بعضهم قد ورد اسمه فيما نشرته الحكومة المصرية عن التنظيم الدولي للإخوان قبل عدة أشهر، السؤال: كيف يصمت هؤلاء على اعتداءٍ صارخٍ يتعرّض له الوطن الذي يفترض أنّه وطنهم الذي يدينون له بالولاء؟ وتاريخهم يشهد بأنّهم أسرع الناس إلى إشعال المواقف وتجييش العامة في قضايا أخرى كقضية "حماس" في غزة وغيرها؟ هل يعتقد هؤلاء أنّ ولاءهم للجماعة أهمّ من ولائهم للوطن؟ وأن الجهاد والأجر والدعم المادي والمعنوي يجب أن يكون للجماعة لا للوطن؟ أم أنّهم سيزعمون كما فعل التنظيم الأم بأنّهم لا يعلمون شيئاً! كان لدى الملك عبدالعزيز وعي مبكر بخطر "الإخوان المسلمين" يظهر في الكلمة الشهيرة التي قالها لحسن البنّا حين طالبه البنّا بإقامة فرعٍ للجماعة في السعودية، فكان جواب الملك عبدالعزيز واضحاً وصريحاً حين قال: "كلّنا إخوان، وكلّنا مسلمون"، إنّ الفتنة الحوثية فتنة ذات أبعادٍ ثلاثةٍ: محلي وإقليمي ودولي، ويجب علينا التعامل معها على هذه المستويات كافةً، فإخماد الفتنة واجب، وردّ كيد المعتدي إلى نحره فرض، وسيادة الوطن على أرضه لا نقاش فيها، وحق المملكة العربية السعودية في الدفاع عن أراضيها من ذيول المخرّبين والمتسللين والمسلّحين حق مشروع تؤيده كافة الأديان وتكفله كافة الشرائع والقوانين المعتبرة. الإشكالية في موقف التنظيم الإخواني الأم تكمن في أنّه تنظيم أيديولوجي لا يعترف بحدود الجغرافيا ولا نطاق الزمن، فهو مرتحل في الزمان والمكان، بغض النظر عن أية عوامل مؤثرة أخرى، والغائب الأكبر عن تفكيره هو وجود أوطانٍ ذات سيادةٍ لا يحق له ولا لغيره العبث فيها ولا معها.