من بين تلك الإعلانات التلفزيونية الكثيرة التي تحث المشاهدين على الاستثمار في الذهب يقول أحدها إن الذهب من الأصول المضمونة التي "لا ينخفض أبداً إلى مستوى الصفر"، ومع أن هذه الدعوى قد تنطوي على تقليل من قيمة الذهب وتبخيس لها لربطه بالصفر، إلا أن الواقع يشير فعلاً إلى شهية عالمية متنامية لشراء الذهب، فقد اشترت الهند في الشهر الماضي مئتي طن من الذهب بسعر 1045 دولارا للأوقية قبل أن يصعد السعر إلى 1108دولارات يوم الإثنين الماضي، وبالمثل يبدو أن الصين قررت تنويع استثماراتها بنقل جزء منها على الأقل من سندات الخزينة الأميركية إلى الذهب، لا سيما أن بعض المراقبين يتوقعون احتمال ارتفاع سعره إلى 2500 دولار للأوقية في غضون ثلاث إلى خمس سنوات قادمة، وبالطبع يرجع هذا الإقبال الكثيف والملحوظ على الذهب إلى السلوك الأميركي ذاته. ورغم الحصة الصغيرة التي استثمرتها الهند في الذهب بالنظر إلى إنتاجها المحلي الإجمالي الذي وصل في العام 2008 إلى 2.1 تريليون دولار لتشكل مشترياتها 7.6 مليار دولار، فإن هذا التوجه نحو الذهب قد يفتح الباب أمام المزيد ليصبح مصدراً جذاباً للحكومات لتحقيق بعض الأرباح بدل السندات الحكومية، بخاصة سندات الخزينة الأميركية التي فقدت قيمتها بعد استحقاق الرعاية الصحية الذي يتوقع أن يزيد من حجم الديون الأميركية لتمويل برنامج الرعاية باهظ التكلفة. فقد فاق حجم عجز الموازنة الأميركية في العام 2009 بثلاث مرات حجمه في العام 2008 لتشكل نسبة 10 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وحسب "لورنس ليندزي"، العضو السابق في مجلس أمناء الاحتياطي الفيدرالي ومدير مجلس جورج بوش الاقتصادي بين العامين 2001 و2002، فإنه من المتوقع أن تحافظ الولايات المتحدة على نسبة 7 في المئة من عجز الموازنة لعقد كامل من الزمن، هذا في الوقت الذي كانت فيه هذه النسبة خلال فترة رونالد ريجان 6 في المئة ولسنة واحدة فقط، ويضيف "ليندزي" إن قيمة الاقتصاد الأميركي انخفضت بحوالي 13 تريليون دولار منذ بدء الركود الاقتصادي في ديسمبر 2007، فما الحل إذن للخروج من هذه الأرقام السلبية وتحسين الأداء الاقتصادي؟ يمكن للأميركيين أن يشرعوا على غير العادة في الادخار لكن ذلك من شأنه تعميق الأزمة وإطالة الركود، لذا يمكن في المقابل لأميركا أن تلجأ إلى تضخيم قيمة أصولها بطبع المزيد من الأوراق المالية، وهو ما تقوم به بالفعل حسب "ليندزي" من خلال طبع المزيد من السندات وإقراض البنوك بأسعار فائدة منخفضة، وهي الأموال التي يمكن للبنوك استخدامها لشراء السندات الحكومية، غير أن التمادي في هذا الإجراء قد يضاعف السيولة الموجودة ويطلق العنان للتضخم، أو يؤدي إلى رفع نسبة الفائدة للجم التضخم وبالتالي إعاقة الخروج من الركود بإعادة تقييد الإقراض، وفي حالة أخرى ربما تواجه أميركا ما واجهته اليابان فيما بات يعرف بـ"العقد الضائع" عندما بدأت البنوك تضخ الأموال في السندات الحكومية بدل الاقتصاد الحقيقي. ومع أن أميركا، يقول "ليندزي"، لن تصل أبداً إلى ما وصلته جمهورية "فيمار" الألمانية عندما كان الناس يتوجهون إلى المتاجر ومعهم حقائب من الأموال بعدما تراجعت قيمة العملة، إلا أنه في الوقت نفسه يؤكد أنه لا أحد يتصرف كما تتصرف الولايات المتحدة اليوم إزاء عجزها المالي، مضيفاً لنفترض أن شخصاً يمتلك بعض سندات الخزينة الأميركية، أو أصولاً أخرى مسعرة بالدولار، وكان يجلس أمام زرين أحدهما مكتوب عليه اشتر والآخر بع، فعلى أي الزرين يضغط؟ بالطبع يقول "ليندزي" إنه سيختار البيع. لكن لحسن الحظ يواصل "ليندزي" أن هناك كمية كبيرة من السندات الأميركية التي تروج في السوق، ومن الصعب أن يلجأ الجميع إلى بيعها في نفس الوقت، إلا أنه في حال قرر عدد كاف من الأشخاص والمؤسسات والدول بيع سنداتهم، فإن آخرين لن يشتروا ما لم ترتفع نسبة الفائدة على نحو ملحوظ لتحقيق بعض الربح، وهو ما سيدخل الاقتصاد في حلقة مفرغة، لأن أميركا ستضطر للاقتراض مجدداً ومضاعفة عجزها. وفي هذا الإطار يؤكد "إيروين ستيلزر" من معهد هودسون بأن الصين التي تعد الدائن الأكبر لأميركا رفعت حجم مدخراتها من الدولار بنسبة 20 في المئة خلال السنة الجارية حتى لا يتعرض الدولار لمزيد من الضعف بسبب طرحه المتزايد للبيع، لكنه أضاف أيضاً أن الصين تفكر جيواستراتيجياً كما تفكر اقتصادياً، وقد يكون لديها دوافع غير اقتصادية لتشجيع هروب مسيطرة عليه من الدولار. ويقول "ستيلزر" إن هناك حالة واحدة يمكن العودة فيها مجدداً إلى الاستثمار بكثافة في الدولار، وهو حصول حدث كبير على الصعيد العالمي مثل توقف إمدادات النفط من الشرق الأوسط مثلًا، لكن في غياب حدث من هذا الحجم ستسعى الولايات المتحدة للاستفادة من نسبة التضخم المسيطر عليها كي تقلل من حجم ديونها الخارجية، ويبقى الخوف أن تفرط واشنطن في الثقة وتصاب بالغرور، وهو أمر ليس نادراً في الأوساط الاقتصادية، لتعتقد أنها اجتازت خطر التضخم ما يستدعي حذراً كبيراً في التعامل مع الأموال الجديدة التي ستدخل السوق وإيجاد طريقة مناسبة لامتصاصها قبل إشعال فتيل التضخم. جورج ويل محلل سياسي أميركي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"