بعد قلق كبير ومشاورات واتصالات رافقتها تجاذبات ومناورات ومزايدات وتحركات إقليمية، ولدت الحكومة اللبنانية. ويمكن القول بأسف وبواقعية في آنٍ معاً إن العوامل الإقليمية والداخلية متداخلة ومترابطة إلى حدود بعيدة بما يترك لها تأثيرات على مجريات الأمور في بلدنا، ولا شك في أن اللبنانيين يتحملون المسؤولية الأولى في هذا الأمر، إضافة إلى العامل الجغرافي وموقع لبنان في محيطه وتأثره به على مرّ العصور وخصوصاً في التاريخ الحديث. وبعد ولادة "لبنان الكبير"، ثم بعد قيام إسرائيل دولة الإرهاب والاغتصاب على أرض فلسطين. وإذا كانت محاولات لبننة الصراع والعوامل، قد فشلت في المراحل السابقة، فإن ذلك لا يعني على الإطلاق ضرورة التسليم للعوامل والتأثيرات الخارجية، وبالتالي الاستقالة من العمل على ضرورة تحسين الأداء ومعرفة كيفية التعامل معها وتحصين الوضع الداخلي والعلاقات بين القوى اللبنانية المختلفة وتحمل المسؤولية في إدارة شؤون الدولة والمواطنين في مختلف المجالات. بمعنى آخر، مسؤولية اللبنانيين وقياداتهم بالتأكيد بإنتاج تسوية بات واضحاً أن لبنان محكوم دائماً بالوصول إليها في كل المراحل، لا سيما بعد الخروج من الأزمات الكبرى، بل للخروج من الأزمات الكبرى. ولطالما تحدث الرمز الوطني كمال جنبلاط عن جمال التسوية، وكان صانعاً بارعاً في إنجازها حيث يستطيع، ولامعاً في محاولات الوصول إليها ولو فشلت. لكن، إذا كانت التسوية ضرورية للخروج من أزمات سياسية كبرى، فهل هذا يعني تسويات حول الإدارة مثلاً؟ وحول مصالح اللبنانيين؟ نحن نرى انقسامات سياسية كبرى في دول عديدة. لكننا نرى الإدارة في خدمة كل الناس. وليست لخدمة حزب أو طائفة أو فريق أو فرد دون الآخرين. والمواطنون يعرفون واجباتهم ومسؤولياتهم ويعرفون الوجهة التي عليهم سلوكها لمعالجة مشاكلهم والقيام بما هو واجب عليهم ومطلوب منهم. وهذا ما ينبغي أن تكون عليه الأمور. ولذلك، هل يمكن أن تفسد السياسة والحسابات السياسية والمصالح المختلفة مصالح الناس وتمنع حل مشكلة الكهرباء ويدفع اللبنانيون فاتورة مالية وبيئية وصحية وسياسية مرهقة كل عام ولا يصل التيار الكهربائي إلى كل المناطق تقريباً ونبقى في دوامة فضيحة مدوية؟ وهل يمكن بقاء الضمان الاجتماعي على ما هو عليه مثلاً؟ وتبقى الفاتورة الصحية على اللبنانيين على ما هي عليه؟ ومن يدفع الثمن؟ أليس كل اللبنانيين؟ وهل يمكن أن نبقى بلا رؤية لاستخدام ثرواتنا المائية التي تهدر في البحار التي يُضاف إليها كل أنواع التلوث بسبب رمي النفايات فيها وصبّ المياه المبتذلة فيها أيضاً؟ وفي المقابل يزيد عندنا التصحّر، وتتأثر الزراعة ويتكثف التلوث فيما يخرج الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز ليقول:"المياه كالغيوم. لا يستطيع أحد الإدعاء أنها ملك له"! وهو قول خبيث يخفي نيات واضحة في تبرير محاولات السيطرة على المياه ومصادرها! وهل يمكن أن يبقى الفساد معششاً في كل إدارات الدولة ولا تستطيع أن تحاسب موظفاً، يتحول مع الوقت إلى موقع أقوى من مواقع الوزراء والمسؤولين، لأنه يحظى بحماية سياسية. وإذا حاولت معاقبة مرتكب تجاوز ما، تحولت القضية إلى محاولة الانتقام من طائفة أو تيار أو حزب! كأن كرامات الطوائف أو الزعماء باتت مرتبطة بفاسد من هنا أو من هناك في ظل سياسة التجاذبات والنكايات والمصالح الفئوية الضيقة. وبهذا المعنى نشعر أحياناً وكأن ثمة تسوية غير معلنة بين أصحاب هذه المصالح على بقاء هذه المزارع والمحميات في الإدارات، والتي بحكم بقائها تهين المواطن اللبناني، وتضرب مصالحه وتزيده ارتهاناً لهذا أو ذاك وتتفكك الدولة وتضعف فكرة مرجعيتها! وهل يمكن بقاء الجامعة اللبنانية والمدرسة الرسمية على حالهما؟ ومن المتضرر من ذلك؟ أليس أبناء الطبقات الشعبية الفقيرة غير القادرين على تحصيل تعليمهم في الجامعات الخاصة الكبرى؟ وماذا عن الجامعات الخاصة التي لا توفر المستوى اللائق من التعليم؟ نعم، هذا موجود في بلد الإشعاع والنور والثقافة والحضارة والعلم، والذي كان جامعة المنطقة ومستشفاها ومركز الطباعة الأول فيها ومعقل الحرية الأهم. ماذا عن السياحة التي هي مورد أساس في اقتصادنا؟ فالسياحة مرتبطة بالكهرباء والطرقات والمياه والأمن والاستقرار والإدارة ومراقبة المؤسسات والأسعار والاستفادة من الطاقات المادية والطبيعية والبشرية في لبنان. حيث لا تجد مؤسسة سياحية في المنطقة كلها إلا وفيها عدد كبير من العاملين اللبنانيين في مواقع قيادية مختلفة. ماذا عن سلامة السير ومراقبة الطرقات والسيارات وخطة النقل واحترام القوانين، حيث يتجاوزها اللبناني عموماً في بلده ويحترمها إلى أقصى حد في الخارج ويقدّم نفسه هناك حضارياً وملتزماً ولائقاً ومتطوراً؟ ماذا عن المخدرات والفلتان في ترويجها في المؤسسات التربوية وفي المناطق المختلفة؟ ماذا عن البطالة وهجرة اللبنانيين؟ ماذا عن الدين العام؟ ماذا عن وعن وعن؟ كثيرة هي المشكلات التي نعاني منها. ولست هنا لأنعى الوضع والواقع اللبنانيين! أو لأبالغ في رسم صورة قاتمة أو لأكبر المشاكل أمام الحكومة الجديدة وهي بطبيعتها كبيرة. ما أريد قوله، نحن أمام فرصة، وعلينا الاستفادة منها والتعلم من دروس وعبر الماضي. مشاكلنا الحياتية والاجتماعية على كل المستويات العمرية والمناطقية والطائفية والحزبية ومعاناتنا واحدة وبالتالي يجب أن تكون مسؤوليتنا واحدة في المعالجة. وعلى هذا الأساس أقول إذا استطاعت الحكومة الجديدة حل مشكلة الكهرباء فقط والتأسيس لإدارة نظيفة ومنتجة، سيسجل لها أنها حكومة الإنجازات الحقيقية ما عدا ذلك، أو إذا لم يحصل ذلك، سنبقى في دوامة الخلافات التي ستعود إلى الظهور بعد فترة السماح القصيرة التي ستعطى للحكومة. وبعيداً عن التسويات الكبرى، فلتكن تسوية لحماية اللبنانيين من الظلام فنعالج مشكلة الكهرباء، ومن الظلم والفساد والهدر، فنحفظ سمعة وكرامة ومصلحة لبنان واللبنانيين.