يلاحظ المراقب للاستراتيجية التركية في الآونة الأخيرة، وجود نقلة أو تغير في اتجاه البوصلة تجاه الشرق بعد أن كانت العقود الماضية خير شاهد على إصرار تركيا على الاندماج في الغرب عن طريق الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي ولو بعد ثلاثة عقود من الآن، كما صرح بذلك أحد المسؤولين الأتراك منذ فترة وجيزة. طبعاً تركيا لا يمكن جغرافياً ولا سياسياً وأمنياً ألا تفكر شرقاً لأنها وفق أحكام الواقع أو المشهد السياسي العام، فهي في تماس دائم مع سوريا والعراق وإيران، وغيرها من بلدان خرجت من تحت العباءة السوفييتية باستقلال تام وولاءات غير تامة، وتذبذب بين الماضي والحاضر والمستقبل. هذا التحول الراهن لم يلفت نظر الكثيرين من الكُتاب العرب وإن كان الغرب في قلب الاهتمام، وقد يكون السبب المباشر القومية العربية التي انفصلت عن الإمبراطورية العثمانية، أو الخلافة الإسلامية التي لم تعد هي محور العلاقات الدبلوماسية بين الشرق والغرب وإلا عادت دورة التاريخ إلى نقطة اللاوعي بما يدور من حولنا من تغييرات واضحة نحو الانفتاح على الجميع بدافع المصلحة بعيداً عن طوق الأديان أو الأفكار المتضاربة أو غيرها من المبررات التي سرعان ما تفقد بريقها عند أول خطوة نحو بناء علاقات دبلوماسية جديدة بين دول طال من حولها الخصام أو العتب. إن الحراك السياسي التركي الراهن يلعب دوراً واضحاً في بناء دور إقليمي نافذ لن يقل عن الدور الإيراني المختلف تماماً في الإطار والمضمون، لأن الأيديولوجيا هي القوة الدافعة له، أما في تركيا فإن البراجماتية والعلمانية هما السياجان اللذان يحركان البوصلة الحالية تجاه مصالحها الحيوية سواء في صفقات الغاز أو في الطريق إلى الحرير. الدور هنا بمعنى الريادة والمبادرة وضع هذا الثقل العربي في مكانه الصحيح من أجل المشاركة مع الآخرين في صناعة قرارات هذا العالم "المعولم". والراهن أن تركيا عاندت إسرائيل في فترة نسبية مرتين، الأولى في "دافوس" بعد انسحاب رئيس وزرائها من جلسة شارك فيها الرئيس الإسرائيلي، والثانية وقفها للمناورات العسكرية مع إسرائيل، مع حرصها الشديد على بقاء علاقاتها الدبلوماسية معها بنفس الدرجة والأهمية التي بدأت بها. وإذا أردنا المقايسة النسبية فإن العرب أصحاب القضية الأم أولى بهذا الدور للنفوذ إلى حيث مصلحتهم الذاتية بالتعاون مع الدول التي تتماس معهم في قضية فلسطين أو غيرها من القضايا المستجدة، لأن السياسة لا تعيش إلا في عالم المتغيرات التي تعد لها ثوابت حقيقية. والعالم اليوم مزدحم بالفرص بعد تخلي أميركا عن كونها القطب الأوحد وقبولها بالجلوس مع الآخرين دون استخدام مسميات الأقطاب الأخرى، ولذا فإن فرص الشراكة والتأثير سانحة أكبر من ذي قبل، وهذا ما جرى بالضبط بعد توسيع (G8) إلى (G20) وهذه خطوة لصالح العرب والأشقاء والأصدقاء الآخرين الذين لم يقفوا في صفوف أو طوابير المتفرجين كالبرازيل والصين والهند. لماذا يستهين البعض بقدراتنا وأنفسنا ويحاول زعزعة الثقة المطلوبة في هذا الظرف الصعب الذي قد يولد ما هو أنفع بمنظور المستقبل، شرط تخلينا عن العواطف الآنية والمشاعر الجياشة عند اتخاذ القرارات السيادية والسياسية للصالح العام مع الالتزام بكل ما لنا وما علينا من واجبات وحقوق المشاركة في اتجاهين. فتركيا اليوم تلعب هذا الدور مع الشرق وذات الدور مع الغرب أيضاً لأنها لا تستطيع بأي حال أن تتخلى عن أي جزء منها هنا أو هناك، وتحريك القضية الأرمنية خير مثال على ذلك. وبقاء الجفول العربي تجاه تركيا، لأسباب من التاريخ الغابر، لن يضيف لدبلوماسيتنا العربية شيئاً للبناء عليها ولصالحنا على الأقل.