كان الحديث قبل أسبوعين عن احتمالات استقالة محمود عبّاس من رئاسة السلطة الفلسطينية. والآن بدأ الحديث عن احتمالات استقالة السلطة ذاتها. والخشية أن تكون مثل هذه المعلومات نوعاً من المناورة، أو القفز في الفراغ. والحال أن إعلان محمود عبّاس عدم ترشيح نفسه للانتخابات، بدا مخرجاً منطقياً من سؤال الاستقالة. فهو لا يستقيل، وبالتالي لا يترك فراغاً سياسياً أو قانونياً، ولكنه يعلن أنّه لا يوجد أفق سياسي يبرر بقاءه، وأنّه لابد من سياسة فلسطينية جديدة. كما أنه ينفي عن نفسه بذلك أنّه قد يقدم أية تنازلات سياسية لتحقيق مصالح شخصية. ولكن الآن وكما كشفت "نيويورك تايمز" يوم الثلاثاء، فإنّ مسؤولين آخرين في السلطة الفلسطينية يفكرون في الاستقالة، ويقولون إنّ عبّاس ذاته قد لا ينتظر طويلا إن لم تعقد الانتخابات وقد يستقيل، والمنطق في ذلك أنّ السلطة وُجِدت في سياق مشروع وطني مُعيّن، فإذا لم يتحقق هذا المشروع فلا ضرورة لبقاء السلطة. وإن حدث هذا يكون محمود عباس، وبعض من معه، قد قلبوا الطاولة تماماً، ليس في وجه إسرائيل وحسب، بل وفي وجه الخصوم الداخليين (المنافسين على السلطة)، مثل حركة "حماس". ولكن الخطير أنّ هذا قد يكون "قلباً للطاولات" على رأس الشعب الفلسطيني أيضًا. والتهديد بحل السلطة، يمكن أن يكون هو الصدمة الكهربائية الثانية -بعد إعلان التنحّي- التي يقوم بها الرئيس عبّاس، ضد الإدارة الأميركية، لأنّ الحل يعني ببساطة، أنّ إسرائيل تتكرّس كقوة احتلال، دون أن تأخذ ميزة الادّعاء بأنّ هناك سلطة فلسطينية تحكم الفلسطينيين. ولأن ذلك يضعها في مواجهة الفلسطينيين، بل وكما تنبأ يوماً الجنرال الأميركي "كنيث دايتون" المقيم في الضفة الغربية، فإنّ الشرطة الفلسطينية التي تدربت بدعم أميركي، ستتحول للقتال ضد المستوطنين، والاستيطان. وهذا السيناريو ليس خيالا. وسبق لعناصر في قوات الأمن الفلسطينية أن وجدت نفسها في مواجهة البنادق الإسرائيلية ومضطرة للدفاع عن نفسها وشعبها. ومن هنا فقد يكون التهديد بحل السلطة نوعاً من التحذير، وفق نمط سياسة "حافة الهاوية"، حيث يتصاعد التهديد والتحذير، وقد تحدث المواجهة وقد لا تحدث. ولكن ما لا ينبغي نسيانه هو أنّ السلطة الفلسطينية تضخمت كثيراً، وباتت جزءاً من الحياة اليومية للفلسطينيين، والأهم أنّ نموها كان على حساب منظمة التحرير الفلسطينية التي هي الكيان المعنوي والمؤسسي للفلسطينيين، ولابد من حساب دقيق لكل ذلك. وما كان سيكون أكثر جدوى وقوة، من إعلان تنحي عبّاس عن الانتخابات، ومن الاستقالة الممكنة للسلطة، هو تفعيل أدوات ومؤسسات العمل الفلسطيني ذات الصلة بإدارة الصراع. وتحديداً السفارات والهيئات الدبلوماسية، وجماعات الضغط والعمل الشعبي والجماهيري داخل فلسطين لقيادة مواجهة مدنية سياسية يومية ضد الاحتلال، وفي الشتات والعالم لبلورة تحركات الرأي العام وتحويل تضامنها إلى فعل سياسي هادف. إذا كان التلويح بحل السلطة، خطوة تكتيكية للضغط على الغرب، فهذه قد تكون خطوة تأتي بنتائج عكسية، لأنّه إذا لم تتم الاستقالات، أو تراجع عباس عن موقفه، فهذا يضرب مجدداً مصداقية الفلسطينيين. أما الحل الفعلي للسلطة فينبغي أن يكون بموازاة ترتيبات شاملة لإدارة الشأن الفلسطيني اليومي، ولإحياء مؤسسات النضال، وخصوصاً منظمة التحرير، ولا تكون أي خطوة بمثابة انسحاب أو قفزة في الهواء. كما يمكن تحويل السلطة الفلسطينية، ومشروع "سلام فياض" فرض دولة الأمر الواقع الفلسطينية، لتصبح برنامجاً نضالياً ومواجهة سياسية، ودبلوماسية، وميدانية، وإعلامية.