أصبح التناقض جزءاً من حياتنا، وهي ظاهرة لها أسبابها النفسية والتاريخية. ومن الأشياء الطريفة ما قرأته مؤخراً في تقرير السعادة والتعاسة الذي نشرته إحدى المؤسسات الدولية واعتبرت فيه أن الكويت من أكثر الدول التي يشعر شعبها بالتعاسة؛ حيث احتلت المرتبة 128 في مقياس التعاسة. وبالطبع، لنا ملاحظات على المقياس لا مجال للبسط فيها هنا، وما يهمني هو أساب الشعور بالتعاسة. أقول لأحد الزملاء من مصر، وهو أستاذ لعلم النفس، إن مصر صُنفت من الدول التي يشعر شعبها بالسعادة، رغم كثرة المشاكل. وباعتقادي أن انتشار النكتة يساعد في التغلب على الشعور بالتعاسة، حيث يجد فيها الناس وسيلة للتخلص من مشاعر الإحباط. شخصياً، أرى أن الانسجام هو مفتاح السعادة، وغيابه هو مدخل لدهاليز التعاسة. وقد درس عالم الاجتماع العربي "علي الوردي" الشخصية العراقية وحاول تقديم تفسير لازدواج الشخصية العربية، وكانت كتاباته مبدعة في تفسيرها للازدواجية، حيث يقول إن الازدواجية لا تظهر عند الفلاح أو العامل فحسب، بل عند التاجر والمثقف وعالم الدين أيضاً؛ لأنهم يشتركون جميعاً في نمط واحد من السلوك المزدوج الذي يختفي في أقوالهم أحياناً، لكنه يكشف عن نفسه في مواقفهم وسلوكهم مع الآخرين. وخلص الوردي إلى أن لكل منا شخصيتين، واحدة نتحدث بها وأخرى نتصرف بها حسب ما يمليه الواقع. والشخص الذي يؤكد على شيء في أقواله غالباً ما يكون ضعيف الثقة بقوله. فالأناني يتحدث عن الغيرية، وقليل المال يتحدث عن ماله في كل مناسبة، والحسود يترنم بطيبة القلب. وهذا ما يقصده الوردي بالقول إننا نمارس كبت الدوافع النفسية والتظاهر بعكسها، مما يؤدي إلى ازدواج الشخصية. وهو في تحليله يظهر لنا الصراع الداخلي بين القيم التي يفرضها المجتمع وعدم القدرة على قبولها ومحاولة التظاهر بقبولها والعمل عكسها حينما تتوفر لنا الفرصة. فالكبت يزيد من تعقيد المرء ويضاعف معاناته، حيث تستحوذ عملية الصراع الداخلي على الطاقة الخاصة وتنهك الإنسان وتدفعه لتوافق هو غير قادر على تحقيقه. ولعل ذلك ما يفسر شيوع الشخصية "الفهلوية"، ويعتبر الناس "الفهلوة" نوعاً من الذكاء، لاسيما أنهم يعتبرون القدرة على التحايل ذكاءً. وهنا نصطدم بمنظومة الأخلاق والقيم. البعض مثلا يمارس الغش في البيع، ويعتبره شطارة، وهو تناقض يعاني منه من يؤدي الصلاة دون اكتراث بمعانيها، ناسياً أن الخالق يرى كل شيء ويدرك حقيقته الداخلية. والبعض مثلا يسرق وقت العمل غير عابئ بأن فعله هذا خيانة للأمانة؛ فهو مؤتمن على عمله ويتقاضى عنه أجراً، لكنه لا يربط بين السلوك والعبادة. وغير ذلك من التصرفات المتناقضة التي توحي بأن المرء تلبسه شخصيتان، وهو غالباً غير واع بالتناقض الذي يعتريه. وهناك البعض يدركون حقيقة تصرفاتهم لكنهم يجدون لها "التبرير"! وهكذا فالازدواجية في نهاية الأمر هي اضطراب يؤدي إلى اضطرابات غير واعية، بمعنى أن كثيرا من الظواهر المرضية تظهر دون أن يعرف الشخص سببها. إننا إذن أمام ظاهرة اجتماعية تحتاج فهماً أعمق؛ لأن التناقض والازدواجية لهما تأثيراتهما النفسية على المدى البعيد، والتي تظهر بإشكال مرضية؛ مثل التعاسة والكآبة والملل... وقد تتطور إلى مرض جسدي، حيث يعجز الفرد عن التبرير وحل التناقض الداخلي، فينتابه ألم الضمير. والمصيبة أنه لا يعرف أن ما يقوم به هو سبب تعاسته. د. على الطراح