لا يمكن، بأي حال، أن تبرر الأخطاء الفلسطينية لأحد استمرار الانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة. السلطة الوطنية الفلسطينية أخطأت في موقفها الأول المتسرع من تقرير "جولدستون". كما أن "حماس" أخطأت في مفردات حملتها الإعلامية والسياسية المبالغ فيها ضد السلطة، الأمر الذي ضيع فرصة الاتفاق والمصالحة الفلسطينية في القاهرة. وبدل أن يكون التقرير مناسبة فلسطينية للضغط الدولي على إسرائيل، أضحى فرصة للجدال الداخلي الفلسطيني ولتعميق الانقسام. فلنتفق، إذن، أن الجميع يخطئ بحق القضية المركزية، لكن أن تتحول الأخطاء إلى خطيئة وتستخدم لتجذير الانقسام فهذه جريمة. والآن، بعد أن تداركت السلطة هذا الموقف، بات المطلوب من الجميع تثبيت التقرير دولياً لإنصاف ضحايا الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، لاسيما وأن الشتاء قد دق الأبواب، وهذه واحدة من الأولويات الفلسطينية. وفي موضوع الاعتقالات السياسية الذي أعلن الاتفاق بشأن أسس حله في خضم حوارات القاهرة، أصبح الأمر الملح -الآن- أن ينتهي هذا الموضوع البائس. ذلك أن استمراره يجعلنا نعتقد أن كلا من الطرفين لا يرغب في التوصل لاتفاق فلسطيني، خاصة بعد أن لوحظ نوع من "التبادل" في الإجراءات التعسفية من الفريقين بحق كل فريق، ولو بذرائع مختلفة عبرت عن نفسها أحياناً باستمرار اعتقال كوادر وعناصر الحركتين، سواء في الضفة أو في القطاع، وكأني بكل طرف يلجأ للقيام بحملة اعتقالات لإيجاد مبرر لتأجيل المصالحة، متناسين أن هناك أكثر من أحد عشر ألف معتقل في سجون الاحتلال بحاجة إلى نضال من أجل الإفراج عنهم، وهذه أيضا واحدة من الأولويات الفلسطينية. وفي مجال ثالث، في المقابل، يستمر اللعب بمصطلحات من هنا وهناك، تتعلق باتهامات كل طرف ضد الطرف الآخر بتقديم التنازلات السياسية، ومن أبرزها الزعم بأن السلطة الفلسطينية متربعة في حضن الولايات المتحدة وقرارها ليس بيدها بل بيد "كيت دايتون"، مع مقابلة هذا الزعم بآخر قوامه أن قادة "حماس" ظلاميون وقرارهم مرهون بأيدي إيران وسوريا وقطر. حسناً، حتى لو كان هذا الاتهام أو ذاك (أو كلاهما) صحيحاً الآن، وفي ظل الموقف الفلسطيني الرسمي الراهن الرافض لمتابعة المفاوضات قبل الوقف الشامل والكامل لـ"الاستيطان"، يصبح من الضروري التكاتف لصيانة هذا الموقف ووضع سياسة بديلة قوامها "مفاوضات رشيدة مع مقاومة رشيدة" وفق تعبير عريب الرنتاوي، وهذه كذلك واحدة من الأولويات الفلسطينية. إن كل العوامل السابقة هي نتيجة للانقسام الفلسطيني، وليست سبباً له. وكافة الملفات العالقة يمكن حلها لو أنجزنا المصالحة التي هي شرط وحدة الموقف السياسي استراتيجياً وتكتيكياً. أما تذرع أي طرف بهذه القضية أو تلك، فهو خداع مكشوف للشعب الفلسطيني. فأي ملف يتضخم ويصغر بقرار من الطرفين، والكل يعرف طرق معالجة الملف بأسرع مما يتصور البعض إذا نحن اتفقنا على معالجة القضايا السياسية والتقدم باقتراحات حقيقية. ويلحظ فريق متنام من المراقبين والمعلقين أنه يتم اللجوء إلى هذا الملف أو ذاك من أجل التغطية على الخلاف الحقيقي: غياب الإرادات الاستراتيجية في الوحدة الوطنية لدى جهات داخل الطرفين، مع "رغبة دفينة" بترسيخ وجود كيانين فلسطينيين أحدهما في القطاع والآخر في الضفة، وهذان هما السببان الحقيقيان للخلاف وليس أي ملف آخر! وعليه، فالمصلحة الفلسطينية المرحلية والاستراتيجية، تقتضي من جميع الأطراف، وليس حركتي "فتح" و"حماس" فقط، العمل الحثيث لردم الهوة بين المواقف وإنهاء الانقسام. فالوحدة الفلسطينية حاجة ماسة وضرورة وطنية وقومية ملحة، مما يجعلها أولوية الأولويات الفلسطينية الراهنة، لتجاوز واقع الانقسام، وتمتين الجبهة الداخلية وإطلاق حوارات عميقة بين كافة القوى الفلسطينية لبناء أسس الإجماع الوطني الفلسطيني الجديد، خاصة في ظل تزايد الشروط والضغوط الإسرائيلية والغربية المتصهينة. على صعيد متمم، يجب التأكيد على أن الدور الإقليمي وتدخلاته مبالغ فيه، باعتبار أن العوامل الإقليمية لن تكون مؤثرة إلا إذا وجدت من يحملها ويتكيف وفقها داخلياً. لذا فإن الخروج من الأزمة أمر واقعي شرطه العودة إلى الحوار الوطني الشامل وترك مواقع التجاذب الثنائي بين "فتح" و"حماس". لقد جربت الحركتان الصدام في الشارع وعاينتا مدى الخسارة التي منيت بها القضية الفلسطينية وبشاعة الاقتتال الداخلي، ومن المفترض أنهما أخذتا العبرة. وفوق كل ما سبق، ها نحن ندعو، بل نترجى، بل نتوسل إلى قيادتي "فتح" و"حماس" أن توقفا الحرب الإعلامية التي تصب زيتاً على النار، وأن تضعا نصب أعينهما "واقع" توزع الشعب الفلسطيني بينهما (وبعض الفصائل الحقيقية الأخرى) وأنه لا أمل لأي منهما بإقصاء الآخر و"الاستفراد" بالحكم، وأي "حكم" هذا الذي يجثم على صدره الاحتلال؟! عندئذ، تكون الحركتان (وغيرهما من فصائل حقيقية) قد وضعتا، فعلا، نصب العين مصلحة الشعب الفلسطيني والقضية التي تكاد تفقد قدسيتها، مع المبادرة بكل الطرق والوسائل الممكنة لمباشرة حوار وطني شامل يشارك فيه الجميع على قاعدة "لم الشمل" تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية الموسعة، الديمقراطية والممثلة لقوى الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، وفقاً لما تم الاتفاق عليه في القاهرة في مارس 2005. وفي ذات الوقت يتوجب أن يكون أي اتفاق يتم بين "فتح" و"حماس" (وغيرهما من الفصائل الحقيقية) ناجماً عن قناعة تامة بضرورة وحدة الكيان الفلسطيني وبتوحد السلطة والعمل كقوة واحدة، على قاعدة سياسية موحدة ومتوازنة تقرن المفاوضات الرشيدة بالمقاومة الرشيدة، وليس خطوة فرضها الطريق المسدود بفعل الانقسام. عندئذ، وفقط عندئذ، سيرى الجميع في الطرفين، الفتحاوي والحمساوي، صدق توجههما نحو إعادة بناء الثقة المشتركة وحشد جميع الطاقات لمواجهة التناقض الرئيسي مع الاحتلال وتجاوز التعارضات الفرعية بين الفصيلين على درب خدمة أهداف الشعب الفلسطيني... وليس خدمة أهداف إسرائيل، وهو الأمر الحاصل حالياً، أكان ذلك بوعي منهما أم بدون وعي!