لم يعد خافياً على أحد مدى التداخل الكبير في الاقتصاديات العالمية، وهو التداخل الذي جاءت الأزمة المالية الحالية لتؤكده بما لا يدع مجالا للشك. فقد تخطى الركود الحدود وانتقل عبر الأسواق، وخير مثال على هذا التشابك العلاقة المتداخلة بين الاقتصادين الأميركي والصيني، وهو التداخل الذي بات يكتسي أبعاداً غير مسبوقة تمليها المنافع الاقتصادية المشتركة وما يصاحبها من تقاطع للمصالح السياسية. هذا التشابك الذي وصل حد الاندماج، هو ما يسعى "زكاري كرابيل" لإبرازه في الكتاب الذي نعرضه هنا وعنوانه "الاندماج الكبير: كيف أصبحت الولايات المتحدة والصين اقتصاداً واحداً يعتمد عليه الاقتصاد العالمي؟". فالمؤلف يرى أنه رغم القضايا الكبرى المطروحة للنقاش في الولايات المتحدة، والتي تتراوح بين التعامل مع الملف النووي الإيراني، وتدبير الحرب في أفغانستان وتسهيل الخروج من العراق، فضلا عن الأزمة الاقتصادية الداخلية التي لم تتوقف عن التهام وظائف الأميركيين والقذف بهم إلى براثن البطالة... لا شيء سيحدد ملامح العقود القادمة، أو يرسم السياسات الداخلية لأميركا، مثل صعود الصين كلاعب قوي وأساسي على الساحة العالمية. ومع أن صيرورة الصعود الصينية ليست جديدة، ولا هي سر خفي عن الأنظار، فإن اقتصادها بالغ التعقيد وعملياته غير محسوسة للفرد العادي، ولا تحظى بالقدر الكافي من الاهتمام، بل تتراجع إلى خلفية الصورة مقارنة بالقضايا الشائكة مثل الحروب والبؤر الساخنة في أنحاء العالم. وفي غياب أزمة مستفحلة بين الولايات المتحدة والصين، وعدم وجود خلافات سياسية بأبعاد عسكرية، تبقى العلاقة بين الطرفين محصورة في جانبها الاقتصادي؛ مثل تدفق الرساميل، والتجارة البينية، وغيرها من المواضيع. ولئن كان هذا الصعود المدوي للصين على الساحة الدولية، والاعتماد الأميركي المتزايد على فوائضها المالية لتمويل عجزها الفاحش والمتفاقم، يولد بين الحين والآخر بعض مشاعر الانزعاج والتخوف لدى الأميركيين، ويثير أسئلة عن مدى استدامة هذا الوضع... فإن خلافات الجانبين تبقى محدودة ومسيطرا عليها. ويزيد من التداخل الاقتصادي الذي يشير إليه الكاتب، المصالح المشتركة التي تجعل كلا الطرفين مرتبطا بازدهار الآخر وحريصا على عدم انهياره، لأن فشل أحدهما يعني سقوطهما معاً، فالصين مثلا حريصة أشد الحرص على سلامة الاقتصاد الأميركي وعدم تعرضه لمصاعب توهن قدرته على الاستهلاك، لاسيما في ظل استثماراتها الخرافية في أوراق السندات الأميركية والتي تصل تريليون دولار، هذا بالإضافة إلى أن الصين تعتمد بشكل أساسي على السوق الأميركية المستهلكة لبضائعها حتى في ظل الركود الحالي الذي يعيشه الاقتصاد الأميركي، بحيث يبلغ حجم الصادرات الصينية إلى أميركا 300 مليار دولار سنوياً. ورغم التخوف الذي يبديه الأميركيون من فقدان الوظائف في الولايات المتحدة بسبب العمالة الرخيصة في الصين، وصعوبة التنافس معها، فإن هذا النزيف في الوظائف ظهر حتى قبل صعود الصين، وهو يرجع إلى بروز تكنولوجيات جديدة أكثر منه إلى منافسة الصين. لكن بالمقابل تستفيد أميركا من هذا الاندماج الاقتصادي، وبخاصة الشركات الأميركية التي وجدت موطئ قدم لها في الصين بسبب نموها السريع، وهو ما يجعل من استمرار هذا النمو الصيني مصلحة أميركية عليا. وقصة الاندماج الاقتصادي المذهل بدأت، كما يشير الكاتب، في أواخر الثمانينيات التي شهدت حدثاً مفصلياً لا علاقة له، كما قد يتبادر إلى الأذهان، هو أحداث ساحة تيانامين والقمع الذي شهدته، بل هو مرتبط بالمبنى الكبير المكون من ثلاثة طوابق الذي شيد مقابل ضريح "ماوتسي تونج"، وهو مبنى يضم مطعم "دجاج كنتاكي" الأميركي. وحسب المؤلف لا يتعلق الأمر هنا بالطعام بقدر ما يتعلق برمزية الحدث التي تشير إلى الزواج بين الشركات الغربية المتلهفة على دخول السوق الصينية الكبيرة التي تضم سدس مستهلكي العالم، وبين الرغبة الصينية الجامحة في اعتناق الرأسمالية بجميع رموزها. لكن في هذا الزواج ظلت الصين هي من تملك اليد العليا، إذ خلافاً للعديد من الدول النامية التي انبطحت تماماً أمام اشتراطات تحرير السوق وما تفرضه من إملاءات مذلة أحياناً لجذب الرساميل الأجنبية، أدرك قادة الصين بأنهم يستطيعون بسوقهم الضخمة فرض شروطهم الخاصة، وهم يستطيعون جر الشركات الأجنبية للاستثمار في الصين والاستفادة من تجاربها للانطلاق، لكن بوتيرتها الخاصة ودون إملاءات من الخارج. ويخلص المؤلف إلى أن العلاقة بين الصين والولايات المتحدة ذات طبيعة عضوية مثل توأمين سياميين، إذ في غياب المال الصيني لن تستطيع إدارة أوباما الاستمرار في الإنفاق الفدرالي لإخراج الاقتصاد من حالة الركود التي يتخبط فيها، كما أنه بدون الشركات الأميركية العاملة في الصين وبدون شراء أميركا للبضائع الصينية، لن تحصل هذه الأخيرة على المال الذي تستطيع إقراضه، أو إنفاقه. زهير الكساب الكتاب: الاندماج الكبير: كيف أصبحت الولايات المتحدة والصين اقتصاداً واحداً يعتمد عليه الاقتصاد العالمي؟ المؤلف: زكاري كرابيل الناشر: سيمون أند شوستر تاريخ النشر: 2009