عشية مفاوضات جنيف، لعبت إيران بأعصاب العالم، ودفعت زعماء الدول الخمس "ناقص" واحدة إلى الوقوف في ما يشبه التظاهرة ضدها، بعدما أعلن عن وجود محطة جديدة لتخصيب اليورانيوم. أخيراً، تبين أن ما كان يقال عن إخفاء معلومات وكتم منشآت لم يكن متخيلا أو مختلقاً. ومنذ الآن، سيبدأ البحث عما لا يزال مخفياً وغير مصرح به. فطهران لم تبادر إلى إشهار "محطة قم" إلا في الوقت المناسب لها، بل فعلت ذلك وفقاً للأصول، عبر الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأجهضت مساعي استخبارية لكشف هذه المنشأة لإحراجها قبيل الدخول إلى المفاوضات بعد غد. وهكذا لم تعد المنشأة السرية سرية، ما لم يمنع طهران من الاحتفال على طريقتها النجادية بـ "انتصارها" في عملية الإخفاء، أي بنجاحها في حماية السرية حتى اللحظة الحاسمة. وفيما كانت تحتفل كان خصومها الغربيون يكيلون التهويلات والتهديد بالعقوبات، لكنهم لم يذهبوا أبعد من العقوبات على رغم أن الإسرائيلي كاد يرقص فرحاً وشماتة، لأن الريح باتت تضغط في الاتجاه الذي يحبذه. وبعد ساعات من السجال أعلنت طهران أن الموقع الجديد سيكون تحت رقابة وكالة الطاقة الذرية طالما أنها كشفته وصرحت به، وعندئذ بدأت عبارات الترحيب تترى من العواصم الكبرى لهذا الموقف الطيب الحكيم! هذا يعطي الدول الخمس زائد واحدة فكرة عما ينتظرها في المفاوضات. فهي أصبحت أمام محطة جديدة للتخصيب لابد أن يعني إنشاؤها أن إيران لا تنوي العودة أبداً إلى الوراء، بل على العكس هي مصممة على ترسيخ "حقها" في إنتاج الطاقة النووية. هناك إذاً معطى إضافي، ولا شك أنه يعبر عن تشدد إيراني، فأي حديث عن وقف التخصيب ستُدار له الأذن الصماء، ولعله سيبدو كأن الواقع تجاوزه إلى بنود أخرى. أكثر من مرة ردد نجاد أن الملف النووي حُسم وانتهى، ولم يكن أحد يعرف ما الذي يعنيه بذلك، إذ أن إقفال الملف لا يتم من طرف واحد، ومن الواضح أنه لا يزال مفتوحاً من الجانب الدولي طالما أن تقارير الوكالة الدولية لا تخلو من الشكوك والتساؤلات وإن كانت خلاصتها مرضية لطهران، ثم إن الدول المعنية لا تكف عن إبداء القلق والمساءلة. يبدو أن ما يعنيه نجاد هو أن قيادة إيران حسمت أمرها بالنسبة إلى رفض وقف التخصيب، لكنها قررت أيضاً في هذه المرحلة على الأقل أن تبدي كل "شفافية" ممكنة في تعاونها مع التفتيش والرقابة الدوليين بغية الانتهاء من الأزمة. ومع أن هذا يعتبر أقل من الطموح المنسوب لإيران بالسعي إلى قنبلة نووية، إلا أن كل شيء يتوقف على الطريقة التي يطرح بها التراجع. فحتى الهزائم العسكرية يمكن تحويلها إلى انتصارات إذ يكفي تهييج الشارع ليتظاهر ويهتف. وطالما أن طهران لم تتبنَ يوماً علناً هدف إنتاج قنبلة فليس صعباً عليها أن تهلل وتحتفل بأنها انتزعت انتصاراً في تثبيت حقها في إنتاج الطاقة النووية. لكن هذا يتوقف عملياً على المقلب الآخر من المفاوضات، الذي تبدو طهران متعجلة لبلوغه، كونه يعني أولا وأخيراً انتزاعها اعترافاً بنفوذها. لكن، قبل ذلك، سيكون على إيران أن تواجه معركة الرقابة الشديدة والدائمة على نشاطها النووي، لن يكون الجانب الدولي متساهلا على الإطلاق حتى لو بدا كأنه مستعد للاعتراف بالتخصيب المنخفض. هناك نفق طويل من التفاصيل التقنية لابد من اجتيازه بنجاح قبل إعلان أن مرحلة صعبة من التفاوض أنجزت لتبدأ مرحلة أخرى ستوضع إيران خلالها تحت الاختبار قبل الشروع في بلورة تصورٍ ما لموقعها في الأسرة الدولية تمهيداً لرسم حدود نفوذها وضوابطه. هذا مسار طويل لن تتضح نهايته في مستقبل قريب، فالثقة منعدمة على الجانبين وبينهما، ورغم أن إيران يمكن أن تعتبر أن الدول الكبرى منقسمة حولها إلا أن الأطراف التي تصنفها إلى جانبها لا تتبنى مواقفها وسلوكياتها، فلا روسيا ولا الصين ولا ألمانيا معجبة بالنظام الإيراني، ولا هي مستعدة لمجاراته أو مسايرته في مغامراته العبثية. ولأنه مسار طويل فإن إيران تحتاج في سعيها لكسبه إلى إبقاء البؤر التي أشعلتها متوترة ودامية، من العراق إلى لبنان، ومن أفغانستان إلى فلسطين، فضلا عما خفي من بؤر قد تعلن عن نفسها لاحقاً أسوة باليمن والصومال وغيرهما. هذه البؤر باتت هي "القنبلة الإيرانية" ولا بد من إغلاقها قبل الملف النووي، أو بالتزامن مع إغلاقه، إذا بدا ممكناً إغلاقه.