يبدو أن الفلسفة أصبحت في أيامنا ورقة رئيسية في الجدل المحتدم في الساحة العربية بين الاتجاهين "السلفي الأصولي" و"الليبرالي التحديثي". يدل على صحة هذه الملاحظة الحوار المتواصل على أعمدة الصحف وفي الواقع والساحات الإلكترونية حول المقاربات الفلسفية وأثرها في فهم وتحليل الأوضاع الفكرية والسياسية العربية، وتحديد الموقف من الأصول المرجعية في التقليد الإسلامي ومن النص التراثي إجمالا. وفي بعض البلدان العربية التي لا تدرس الفلسفة في الجامعات أسست حلقات فلسفية بدأت تستقطب روادا كثرا، في حين حققت الكتب الفلسفية العربية والمترجمة أعلى نسبة توزيع في معارض الكتب، حسب شهادة الناشرين، متفوقة على الروايات والدواوين الشعرية والمؤلفات السياسية. قد لا تكون الساحة العربية حالة استثنائية، ذلك أن الفلسفة استعادت كثيرا من ألقها وجاذبيتها في السنوات الأخيرة في البلدان الغربية، بعد فترات تراجع شاع فيها وهم إمكانية حل المعضلات الفلسفية بأدوات العلم. وها هي المقاهي الفلسفية تنتشر على نطاق واسع في البلدان الغربية، كما تعود الأعمال الفلسفية الكلاسيكية والمعاصرة إلى واجهة المكتبات. إلا أن الظاهرتين متغايرتان من حيث الموجهات والخلفيات: ففي الغرب يعود الاهتمام مجدداً بالفلسفة إلى أسباب لها علاقة بانهيار الأيديولوجيات الكبرى وما واكبه من انفصام قلق بين نسقي الحدث والفكر (مما جذر الحاجة إلى معين جديد للدلالة والقيم)، في حين يفسر الإغراء الفلسفي العربي بالعامل الأيديولوجي الذي اشرنا إليه (الصراع بين التيارين الليبرالي والتأصيلي). ومن الطبيعي في هذا السياق أن تكون إشكاليات القراءة والتأويل هي الهم المحوري المهيمن على الحوارات "الفلسفية" الدائرة في أيامنا بحدة في الساحة العربية، لارتباطها الوثيق بقضايا الهوية والمرجعية الدينية وموضوعات الإصلاح والتحديث. ومع ذلك لا بد من الاعتراف بأسف أن المبحث الفلسفي لا يزال ضعيفا هشا في التقليد الفكري العربي، وقد يكون إدراجه في الحوار الأيديولوجي المحتدم راهنا أساء إليه أكثر مما أفاده. ففضلا عن كون الفلسفة لا تدرس في أغلب المناهج التربوية العربية، فإن تعليمها في بقية البلدان (باستثناءات قليلة) لا يزال دون المستوى. أما حركة ترجمة الأعمال الفلسفية إلى العربية فلا تزال بطيئة للغاية، وأغلب الترجمات سيئة لا تفيد القارئ. فكيف في مثل هذه الحال الاطمئنان لـ"الطفرة" الملاحظة، التي إن دلت عن حراك أيديولوجي نشط، فإنها لا تعكس تحولا معرفيا نوعيا؟ أسوق هذه الملاحظة مقدما بعض الأمثلة العينية التي تستحق وقفة اهتمام: أما المثال الأول فيخص بعض الأعمال الرائجة التي كتبتها وجوه سلفية ذائعة الصيت في محاكمة الحداثة بالتعرض لمنطلقاتها الفلسفية التي تحصرها ببساطة وسذاجة في "التأثير اليهودي" و"الغزو الثقافي" الغربي، تكريرا لمقاربة دشنها الأخوان سيد ومحمد قطب في الفكر الإسلامي المعاصر. وكنت في مناسبة سابقة قد توقفت عند نموذجين بارزين من نماذج هذه القراءات هما كتاب "سفر الحوالي" المعنون بـ "مقدمة في تطور الفكر الغربي والحداثة"، وكتاب عوض القرني "الحداثة في ميزان الإسلام". تتعين الإشارة هنا أن النسخة الأكثر اكتمالا من هذه المقاربة تكمن في أعمال الكاتب المصري الراحل "عبد الوهاب المسيري" حول العلمانية، والتي نزعت إلى تقديم قراءة نقدية في الجذور الفلسفية للعلمنة من حيث هي تعبير عن الرؤية المادية كـ "نزع للقداسة عن الإنسان والطبيعة" وتكريس للقيم الاستهلاكية والنفعية وتأكيد المرجعية الذاتية للجسد. ولئن كان المسيري يوظف عُدة نظرية أكثر رصانة، إلا أن قراءته للفلسفة الغربية تنم عن قصور فادح في الاطلاع، وتصب في نهاية المطاف في نفس نهج المحاكمة الراديكالية للحداثة كمشروع ثقافي غربي. أما المثال الثاني فيتعلق بحقل الدراسات النقدية الأدبية الذي يتقاطع بكثافة مع الدراسات الفلسفية المعاصرة، بالنظر إلى أن الفلسفة دخلت منذ بداية القرن العشرين في ما يسمى بالمنعرج اللغوي، ومن هنا ندرك محورية مفاهيم القراءة والتأويل والتفكيك والنص ... في الأعمال الفلسفية الجديدة. ومن الواضح أن حركة النقد الأدبي عوضت في بعض الساحات التي لم تزدهر فيها الفلسفة جانباً من الاهتمامات الفلسفية، كما هو شأن السعودية مثلا والتي ظهرت فيها حركة نقدية حداثية نشطة، ولدت جدلا واسعا وصراعا شرسا مع التيار السلفي (أرخ لها الناقد والكاتب السعودي المعروف عبدالله الغذامي في كتابه الممتع "حكاية الحداثة"). والمشكل الذي يطرحه المدخل النقدي الأدبي للفلسفة هو إخراج أدوات ومفاهيم تحليل الخطاب من سياقها الفلسفي لتتحول إلى آليات منهجية ميكانيكية فاقدة لحيويتها الإشكالية ومخزونها التصوري، فتتحول موضوعات التحديث الفكري والاجتماعي إلى مجرد نقاش حول شكل القصيدة والأنماط السردية ومستويات التناص.. إلخ. أما المثال الثالث فيتعلق بحقل الدراسات الإسلامية الذي دخلته تدريجياً المباحث والمناهج الفلسفية، وبدأت تؤثر في مقوماته التربوية والبحثية. بدا التحول أساساً على أيدي مختصين في الدراسات الفلسفية اقتحموا الحقلين الكلامي والأصولي برؤى ومناهج فلسفية معاصرة، كما هو شأن محمد عابد الجابري وحسن حنفي وابويعرب المرزوقي وطه عبد الرحمن... ثم دخل في المسلك نفسه باحثون في التاريخ والحضارة قدموا دراسات علمية مدرسية رصينة (أعد أغلبها بإشراف وتوجيه محمد أركون في فرنسا وعبدالمجيد الشرفي في تونس). ومضت حقبة طويلة دون أن يقتحم المختصون في العلوم الشرعية هذا الميدان الوعر، والذي يتطلب امتلاكا للأدوات الفلسفية المعقدة. لكن ما حدث هو في الغالب الميل إلى التوظيف السطحي المتسرع للمفاهيم والتصورات الفلسفية في اتجاه سجالي وجدلي ببواعث وموجهات أيديولوجية آنية. وهكذا تستخدم مقولة "القطيعة الابستمولوجية" التي تبلورت في نطاق تاريخ العلوم التجريبية للتعبير عن الحاجة إلى الفصل مع المدونة التراثية أو جزء منها، وتستخدم حفريات فوكو، وتفكيكية دريدا، في صراع دنكشوتي مع سلطة "النص المقدس"، دون حد أدنى من فهم أعمال الفلاسفة المعاصرين التي تتطلب جهداً مضنياً ودربة طويلة وتخصصاً دقيقاً. وأخطر ما في هذا المسلك هو عدم تبين علاقة التكامل الضرورية بين "تأويليات الشك" (حسب عبارة ريكور) التي تحدد تاريخية النص وظروف تشكله في سياقه الخطابي الخاص و"تأويليات الانفتاح" التي تنظر للنص كأفق مفتوح للدلالة وكعالم مشترك بين المؤلف والقارئ. فقراءة الجابري لابن رشد أو المرزوقي لابن تيمية تندرج في السياق نفسه الذي تندرج في هذه التأويلية الانفتاحية، ولها مسوغاتها العلمية الرصينة، ومن السذاجة النظر إليها كـ "تتريث للحداثة"، وإنما هي تجسيد للقدرة على القراءة الإبداعية للنصوص الفلسفية السابقة التي هي البوابة الوحيدة الباقية للتفلسف في العصور الراهنة.