كثرت في واقعنا العربي خلال السنوات القليلة الماضية الكتاباتُ والمحاضراتُ والأحاديثُ التي تنصبُ على تداعيات العولمة وآثارها. وللأسف الشديد فإنه باستثناء عددٍ قليلٍ للغاية من الآراء التي جاءت صائبةً وواقعيةً، فإن معظم ما نُشر وقيل كان متسماً بعيوبٍ فكريةٍ بالغة الخطورة. فالعولمةُ -في الحقيقة- تعني أن الحضارة الغربية عازمةٌ على أن تقنن العديد من القواعد التي تنظم أكثر من مجالٍ من مجالات الحياة الاقتصادية والسياسية والقانونية والثقافية وفق القواعد التي ترسخت في ظل هذه الحضارة التي تبوأت مقعد القيادة على مستوى العالم خلال القرون الأربعة الأخيرة -وإن كانت قيادةُ هذه الحضارة قد انتقلت من شرق المحيط الأطلسي إلى غربه خلال العقود الخمسة الأخيرة أيضاً. وإذا كان ذلك، فإنه يكون من العبث حديث البعض -ممن لم يمارسوا في الحياة إلا القراءة والكتابة- عن العولمة، وكأنها فكرةٌ مطروحةٌ للنقاش والجدل. فالواقعُ، أن العولمة ليست \\\\\\\"فكرةً\\\\\\\" مطروحة للنقاش والجدل، وإنما هي \\\\\\\"أمرٌ واقع\\\\\\\" تحاول الجهاتُ التي تتبوأ قيادة العالم الغربي، فرضه وتعميمه بجوانبه الاقتصادية وبشقه الثقافي والفكري. وهكذا فإن العولمةُ ليست فكرةٍ مطروحةٍ للنقاش، وإنما هي أشبه ما تكون بظاهرةٍ طبيعيةٍ حتمية كالزلازل أو البراكين التي من العبث أن نناقش هل هي أشياء جيدة أم سيئة، والصواب هو أن نعمل على التعامل معها أفضل وأنجح تعامل؛ لأن البشر يختلفون في مواجهة وكيفية التعامل مع الواقع، ولكن المصيبة تكون كاملةً وشاملةً عندما يحاولون مناقشة قبول أو رفض الزلازل والأعاصير والبراكين، لأنهم من جهةٍ لا يملكون معطيات تغيير الواقع، كما أن تركيزهم على محاولة التغيير المستحيلة تجعلهم لا ينشطون في المجال الوحيد المتاح وهو التعامل الذكي والأمثل والأكثر مردودية وفائدة مع الواقع. ولعل أبلغ ما كتب في هذا المجال هو ما كتبه د. عليّ الدين هلال عندما قال: إن العولمة تشبه قطاراً تحرك بالفعل بينما لا يزال البعضُ يتساءل هل وجود وحركة هذا القطار شرعية أم لا؟ ومما يزيد الطين بلة في هذا الصدد أن عدداً كبيراً من مثقفي العالم العربي هم من أصحاب الخلفية اليسارية، وهو ما يملي على الكثيرين منهم أن يخلطوا بين ما هو كائن، وما ينبغي أن يكون. وهي سمة من سمات الفكر اليساري لها نبلها وبعدها الإنساني والاجتماعي غير المنكور، ولكنها سمة تضرب في عالم المستحيل والخيال بقدر ما تبعد عن عالم الواقع المحكوم بالحقائق والاستعصاءات. وكذلك يزيد من تعقد الظاهرة التي يتناولها هذا المقال أن العقل العربي المعاصر يرى أن \\\\\\\"القول\\\\\\\" نوع من \\\\\\\"الفعل\\\\\\\" أيضاً! وباختصارٍ شديدٍ، فإن العولمة قد تكون شراً وقد تكون حقاً ممزوجاً بالباطل والأغراض، وقد تكون امتداداً للهيمنة والسيطرة والنفوذ والإمبريالية، ولكنها في النهاية واقعٌ لا يجدي الجدل معه أو حوله، ومن غير المنطق والعقل مناقشته، وإنما يلزم العمل الجاد والكفء والدؤوب والمنطلق من معرفةٍ ورؤيةٍ صائبتين للتعامل المفيد مع هذا الواقع. ومن المؤكد أن كل النظم الحمائية التي عرفناها خلال العقود الخمسة الأخيرة في الحياة الاقتصادية ستُزال واحدةً بعد الأخرى وستكون قواعدُ اللعبة مختلفةً، ولن يكون هناك شيء مفيد إلا نظام فعّال للتعامل مع الواقع الجديد -نظام من \\\\\\\"الأفعال\\\\\\\"، وليس من \\\\\\\"الأقوال\\\\\\\" ومفردات الشجب والعويل ولطم الخدود والبكاء على اللبن المسكوب. ومن المؤكد أيضاً أن سدود وحوائط الحماية الثقافية سوف تخترق. وهذا الاختراق المحتوم يصدق على المجال الاقتصادي والإداري، وعلى مجالاتٍ أخرى عديدة كالتعليم والثقافة والإعلام. فقيادات هذه القطاعات أمامها طريقان: طريق يتبنى فلسفة \\\\\\\"شجب العولمة\\\\\\\" والوقوف أمامها وكأنها \\\\\\\"فكرة رديئة مطروحة للجدل\\\\\\\"، وطريق آخر لا ينشغل باستحسان أو باستهجان \\\\\\\"العولمة\\\\\\\" لإيمان أصحاب هذه الطريق بأن العولمة واقع حادث وما يهم هو أن يكون لهم منهجهم في التعامل معه وبأفضل السبل وأكثرها فائدةً ونفعاً. ولاشك أن سلوك الطريق الأولى سيأخذ المجتمع فكرياً وثقافياً إلى عزلة عن العالم، وسيقيم بين عقول أبناء المجتمع والعالم الخارجي سدوداً عالية تحول دون التعامل مع هذا العالم الخارجي وتجعل لغة الحوار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعلمي والثقافي معدومة الوجود. أما الطريق الثانية فستقود المجتمع إلى محطات التقدم والاستقرار والازدهار التي عرفتها المجتمعاتُ التي لم تغرها لغةُ التحدي المستحيل، وبريق الكبرياء الذي لا يمكن أن يتحقق بالكلمات والشعارات والمواقف الانفعالية. د. طارق حجي كاتب ومفكر مصري ينشر بترتيب خاص مع خدمة \\\\\\\"منبر الحرية\\\\\\\"