ينظر الأطباء للفترة الممتدة من بداية الحمل، وحتى بلوغ الطفل عامه الثامن، على أنها أهم فترات الحياة على الإطلاق على صعيد النمو العقلي والجسمي للكائن البشري. فخلال تلك الفترة يمر الأطفال بمرحلة نمو سريع، تتأثر سلباً وإيجاباً بالعديد من العوامل المختلفة، مثل صحة الأم، ونوعية غذاء الطفل، وظروف البيئة المحيطة، وغيرها. وهذا ما يتضح من حقيقة أن العديد من المشاكل الصحية، والطبية، والسلوكية، والاجتماعية، التي تنتشر بين البالغين، مثل الاضطرابات العقلية والنفسية، أو السمنة، أو أمراض القلب، أو حتى السلوك الإجرامي، أو القدرات اللغوية والحسابية، يمكن ردها في الكثير من الأحيان إلى مشاكل تعرض لها الطفل في السنوات الأولى من حياته. ولكن على رغم الإدراك التام لهذه الحقيقة، إلا أن قطاع الخدمات الطبية والاجتماعية في العديد من دول العالم، فشل حتى الآن في نشر الوعي بأهمية السنوات الأولى من الحياة، وفي توفير الدعم الكافي للأسر الصغيرة، من خلال توفير المعلومات والمهارات التي يحتاجها الآباء. وهو الواقع المؤسف الذي تظهر نتيجته سنوياً في شكل فشل أكثر من 200 مليون طفل دون سن الخامسة، في بلوغ كامل إمكانياتهم العقلية والاجتماعية. وعلى رغم أن غالبية هؤلاء الأطفال يقطنون دولا تقع في جنوب شرق آسيا، أو في دول أفريقيا جنوب الصحراء، إلا أن هذا لا يمنع تعرض أطفال في دول أخرى نامية، أو حتى أحياناً غنية، للمصير نفسه. وتكمن المشكلة هنا في أن تأخر، أو إعاقة، أو انحراف النمو الطبيعي في السنوات الأولى من العمر، يؤدي بالتبعية إلى تأخر وتخلف هؤلاء الأطفال في حياتهم الدراسية، وفي قدراتهم على اكتساب المهارات المهنية، وهو ما ينتج عنه في النهاية أشخاص بالغون يعملون في مهن محدودة الدخل، ويعانون من الفقر مدى حياتهم. وكبالغين أيضاً، كثيراً ما ينجب هؤلاء وهم ما زالوا في سن صغيرة، ودون أن يكونوا قادرين على توفير التغذية المناسبة، أو الرعاية الصحية الكافية لأطفالهم، مما يؤدي إلى خلق أجيال متتابعة، تعاني من انتقاص في النمو الطبيعي، وترزح تحت وطأة الفقر العائلي المزمن. وهو ما يعني أن تعرض جيل واحد لظروف سلبية أثناء السنوات الأولى من العمر، قد يؤدي إلى عدة أجيال، يعاني جميع أفرادها من إعاقات تنموية. ولذا يعتبر الاستثمار في صحة ونمو الأطفال، من خلال مدهم بالتغذية الصحية، وتوفير سبل التعليم الجيد والمتطور، مكوناً أساسياً ضمن أية جهود تسعى إلى تطوير الاقتصاد الوطني برمته. فالطفل الصحيح السليم، غالباً ما ينتهي به الحال في شكل شخص بالغ، يتمتع بصحة جيدة، ودخل مرتفع، تقل احتمالات انخراطه في الجريمة، أو اعتماده على المساعدات الاجتماعية، مما يجعله أحد أعمدة بناء اقتصاد وطني قوي ومتين. وتأتي أهمية السنوات الأولى من حياة الطفل في مستقبله الصحي والمادي والاجتماعي، من كون هذه الفترة تعتبر الأكثر أهمية في نمو المخ والخلايا العصبية خلال رحلة الحياة بكاملها. وتتأثر مرحلة النمو هذه بشكل كبير، وبدرجة عالية من الحساسية للعوامل الخارجية، وخصوصاً في السنوات الثلاث الأولى، بنوعية التغذية، ودرجة الاستثارة والتحفيز اللتين يتعرض لهما الطفل. وغني عن الذكر هنا، أن النمو السليم للمخ والخلايا العصبية بشكل سليم وفي ظروف مناسبة، يعتبر حجر الأساس في مستوى القدرات الذهنية، والاجتماعية، والنفسية، التي سيبلغها الشخص لاحقاً في حياته. والمعروف أيضاً أن مستوى هذه القدرات، يعتبر العامل الأهم في تحديد إنتاجية المرء، ومدى نجاحه المهني، ومكانته بين أقرانه وأفراد المجتمع ككل. وإذا ما خصصنا مدى الاستثارة والتحفيز بالحديث، فتظهر لنا الدراسات والأبحاث أن الطفل كلما تعرض لبيئة مستثيرة للحواس والملكات، كلما زاد مستوى نموه وقدرته على التعلم، وخصوصاً على صعيد القدرات اللغوية والذهنية. وتعتبر الفترة الممتدة من عمر ستة شهور إلى سن ثلاث سنوات، هي الفترة الحرجة في مدى التطور الذي ستبلغه هذه القدرات لاحقاً. ولذا، إذا ما قضى الطفل سنوات حياته الأولى، في بيئة غير محفزة ذهنياً، أو غير مستقرة من الجانب النفسي، فسيعاق حينها نمو المخ بشكل كبير، وتعاق بدرجة مماثلة قدرات الشخص الذهنية، والاجتماعية، والسلوكية. وهو ما يؤدي إلى تعثر مثل هؤلاء، في المراحل اللاحقة من حياتهم، أثناء التعامل مع مواقف معقدة، أو حين التعرض لبيئات ضاغطة. وكذلك فإن نشوء الطفل في بيئة ذات مستوى عال من التوتر، أو عسيرة نفسياً، يزيد هو الآخر من احتمالات التعرض للأمراض المرتبطة بالتوتر، أو الإصابة بصعوبة في التعلم وبالتخلف الدراسي. وإذا ما انتقلنا إلى الحديث عن نوعية وكمية الغذاء، فالقاعدة الأساسية هي أن الغذاء الصحي المتوازن، يعتبر ضرورياً وأساسياً للنمو البدني والعقلي والسليم. فمثلهم مثل البالغين، على رغم اختلاف احتياجاتهم الغذائية إلى حد ما، يعتبر الغذاء الصحي المتوازن للأطفال هو اللبنة الأساسية التي تبنى منها أجسادهم الصغيرة، والتي تعتمد عليها أعضاؤهم وأجهزتهم في القيام بوظائفها الفسيولوجية بشكل سليم. وهذه الأهمية المحورية للغذاء السليم في نمو الطفل، لا تقتصر على غذائه فقط، بل تمتد أيضاً إلى غذاء أمه، أثناء وقبل الحمل. حيث تؤكد الدراسات، الواحدة تلو الأخرى، تأثير غذاء الأم، ليس فقط أثناء الحمل، بل أيضاً قبل أن يحدث الحمل من الأساس، لكونه يعتبر عاملا مهماً في تشكيل مستقبلهم الصحي والنفسي، وفي وقايتهم من الأمراض والعلل طيلة حياتهم.