قال أحد المتابعين لمشكلات منطقة القرن الأفريقي إنّ الفرق بين الدولة الناجحة والأُخرى الفاشلة، يتعلقُ بمدى القدرة على إدارة الشأن العامّ. وقد كان الرجل، وهو وزير خارجية سابق بالدولة الصومالية، يُعلِّقُ على وصف دبلوماسي أميركي في عهد الرئيس بوش لدول القرن الأفريقي بأنها دولٌ فاشلة. ففي الصومال والسودان، هناك حروبٌ أهليةٌ مستمرةٌ منذ عقود، وفي إثيوبيا وإرتيريا هناك نظامان استبداديان، مهدَّدان بالانفجار من الداخل، كما أنهما مهدَّدان بسوء العلائق بالجوار والمحيط. وكان نعوم تشومسكي، الناقد الراديكالي للسياسات الإمبريالية للدولة الأميركية (وهو يسمّيها: الإمبراطورية!) قد ذكر أنّ خبراء الإدارة الأميركية وضعوا للحكم على الأنظمة بآسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية أربعة معايير: الاستقرار، والتنمية، والمشاركة والتداول السلمي للسلطة، والعلائق بدول الجوار والنظام الدولي. ومن الواضح -بحسب تشومسكي- أنّ هذه المقاييس أو المعايير متعسِّفة لأنها تتجاهلُ عاملا أساسياً يُهدِّدُ الأنظمة في معظم أنحاء العالم، وهو التدخل الخارجي من جانب الدولتين الأعظم في حقبة الحرب الباردة، ومن جانب الولايات المتحدة في زمن الأَحادية القطبية بعد انتهاء الحرب الباردة. وهو يضرب أمثلةً على ذلك مأخوذة من أميركا اللاتينية، ومن آسيا الوسطى والقوقاز، ومن الشرق الأوسط. ودائماً بحسب تشومسكي؛ فإنه فيما عدا تأثيرات روسية بارزة في آسيا الوسطى والقوقاز لأنّ تلك المنطقة تقعُ في المحيط القريب لروسيا؛ فإنّ المناطق الأُخرى كُلَّها، يعودُ الاضطراب في أنظمتها للتأثيرات السلبية الأميركية عليها، إمّا بدعم الأنظمة الاستبدادية، أو التدخل لإسقاط الديمقراطيات الوليدة لاعتبار الساسة الأميركيين أنها تُهدِّد مصالح الولايات المتحدة. لكنْ بغضّ النظر عن الوجهة النقدية التي يتخذها تشومسكي إزاء "المصطلح الأميركي" أيام كلينتون وبوش للدول الفاشلة؛ فإنّ "الطموحات" في العقدين الأخيرين من السنين في أكثر أنحاء العالم العربي ما عادت تتجاوز الشرط الأول من الشروط القياسية الأربعة، أي تحقُّق الاستقرار. ويرجعُ ذلك إلى تعرض الأنظمة في ذينك العقدين لضغوطٍ داخليةٍ وخارجية، أدَّت إلى نشر الاضطراب وانعدام الأمن الاجتماعي والاقتصادي؛ بحيث صار الاستقرار الأمنيُّ هدفاً كبيراً أو هماً كبيراً يستحقُّ التطلُّع إليه قبل أيِّ أَمْرٍ آخَر. فهناك على سبيل المثال أربع دولٍ تُعاني من نزاعاتٍ داخليةٍ قويةٍ ومعلنة؛ هي الصومال والسودان والعراق واليمن. وهناك دُوَلٌ أُخرى تُعاني من أزماتٍ سياسيةٍ مستمرةٍ تُهدّد بالانزلاق إلى الاضطراب الأمني، أو النزاع الداخلي. وهناك دولٌ من نوعٍ ثالثٍ غير مهدَّدة ظاهراً بالاضطراب الأمني أو الاجتماعي؛ لكنْ تسودُها أنظمةٌ تفتقر للمشاركة والتداول السلمي للسلطة، كما تفتقر للتنمية، والعلاقات الحسنة بالجوار وبالنظام الدولي. وهذه الأنواعُ الثلاثةُ من الدول في العالم العربي، تضعُ حوالي النصف من الدول العربية في حيِّز الأزمة القاسية أو المتوسطة القوة. ولو رجعْنا إلى القراءة النقدية لتشومسكي والخبراء الآخرين الحاملين على الإدارة الأميركية في حقبة ما بعد الحرب الباردة؛ لاستطعنا أن نجدَ نماذج لتهدُّد الاستقرار في بعض دول العالم العربي نتيجة التدخُّل الأميركي المباشر أو التدخُّلات من دول الجوار. والأمثلةُ على ذلك حاضرةٌ في حالة العراق الذي غزتْه الولايات المتحدة عام 2003، وفي لبنان الذي عانى ويُعاني منذ عقودٍٍ من التدخلات الإسرائيلية والسورية. بيد أنّ معظم دول الأنواع الثلاثة من التأزُّم لا يمكنُ وَضْعُ الإصبع على تأزُّمها باعتباره عائداً بالدرجة الأولى إلى التدخل الخارجي. فالصومالُ على سبيل المثال تدخلت وتتدخلُ فيه كُلٌّ من إثيوبيا وإريتريا؛ لكنّ هذا التدخل حصل بعد حوالي العقد على انهيار النظام فيه. وكذلك الأمْرُ في السودان، الذي يمكن الإشارةُ إلى هذه الدولة أو تلك من الدول الكبرى أو دول الجوار باعتبارها متدخِّلةً فيه بشكلٍ أو بآخر. لكنْ في الواقع فإنّ عوامل الاضطراب الأساسية، سواء في الجنوب أو في دارفور أو في المعارضة السياسية بالشمال؛ كُلُّها داخلية. وما يُقالُ عن النزاعات الداخلية بالصومال والسودان، يمكنُ قولُهُ عن التأزُّم القويّ أو المتوسِّط بالجزائر وباليمن... وإلى حدٍ ما في لبنان. ففي بلدان هذا النوع من التآزُّم يعودُ السببُ الرئيس إلى الفشل في إدارة الشأن العامّ. وهذا الفشلُ هو الذي يشجّع التدخُّل الخارجي، أو يبعث على الاضطراب الداخلي. وفي العادة؛ فإنّ الأنظمة التي عانت أو تُعاني من هذا الشكل من الاضطراب أو التفسُّخ أو التأزُّم، هي أنظمةٌ كانت واعدةً في الأساس. ويمكنُ في هذا الصدد أن نذكر لبنان وتونس والجزائر والعراق. ففي الجزائر قام نظامٌ تحريريٌّ تحرري على أثر حرب الاستقلال الأُسطورية ضد الفرنسيين. بيد أنّ عقدين من السيطرة الحزبية والعسكرية القاسية، جلبا استقطاباً اجتماعياً وإثنياً، وتمرداً إسلامياً. وفي تونس قامت دولةٌ حديثةٌ وناميةٌ لثلاثة عقودٍ، لكنّ عدم التداوُل على السلطة، أحدث توتُّراً سياسياً جاء بانقلابٍ عسكريٍ سلميٍّ، يقدّم قائدهُ هذه الأيام نفسَه إلى شعبه لتجديد ولايته للمرة الخامسة. أمّا العراق فقد توالت فيه الانقلاباتُ بعد عام 1958 إلى أن سيطر فيه حزب "البعث" وصدَّام حسين، وشنّ حروباً روَّعت دول الجوار والعالم، وأحدثت انقساماتٍ داخلية، سهّلتْ الغزو الأميركي له. وتعرض لبنان النامي والمتقدم لضغوطٍ قاسيةٍ بسبب التجاوُر مع الكيان الصهيوني الذي قام في فلسطين، وانطلاق المقاومة الفلسطينية منه. كما بسبب التجاوُر مع سوريا ومطامع النظام هناك في السيطرة والاستيلاء. وأخيراً بسبب تحمُّله أعباءَ الامتداد الناجم عن الثورة الإسلامية الإيرانية. بيد أنّ ذلك كلَّه لا ينبغي أن يصرف الأنظار عن فشل نخبته السياسية في التوافق والاتفاق والتعارُف على إدارة الشأن العام. وقد كان ذلك الفشلُ سبباً رئيساً في توالي الاضطرابات السياسية فيه منذ عام 1953 حتى صارت حرباً أهليةً عام 1975. وهناك دولٌ عربيةٌ لا تبدو مهدَّدةً بالاضطراب. لكنْ تسودُها منذ عقودٍ أنظمةٌ عسكريةٌ أو أمنيةُ الطابع، فلا تداوُلَ للسلطة فيها، ولا سياسات تنموية بارزة أو تغييرية، كما أنّ علاقاتها بجوارها وبالنظام الدولي كانت مضطربةً غالباً، مثل سوريا وليبيا. وكما سبق القول؛ فإنّ الأنواع الثلاثة من الأنظمة العربية التي يسودها التأزم أو الاضطراب أو الاستبداد، يصلُ عددُها إلى أكثر من نصف عدد الدول العربية. وقد دفع ذلك بعض المفكرين المحافظين في العقد الماضي، إلى التحدث عن "الاستثناء الإسلامي" أو "الاستثناء العربي"، في موجة الاندفاع نحو الديمقراطية، بعد انتهاء الحرب الباردة. وقد اتجه بعضُ هؤلاء اتجاهاتٍ راديكالية بنسبة تخليد الأنظمة الأمنية والاستبدادية في البلاد العربية إلى طبائع المجتمعات العربية أو التقاليد الإسلامية! لكنْ، سواءٌ قبلْنا وصفة "الدول الفاشلة" أو وصفة الاستثناء، أم لم نقبلْها؛ فإنّ ظاهرة عدم تداوُل السلطة في الأنظمة الجمهورية العربية، تستحقُّ النظر والانتباه والمُراجعة. وقد لجأ بعضُ المحلِّلين لفهم ذلك بالالتفات إلى متغيرات العقد الماضي في أميركا اللاتينية. ففي خمس أو ست دول هناك، يحتال الواصلون للسلطة بالانتخاب للتمديد لأنفُسهم لعدة مراتٍ، ويدعمُهُم الجمهور في ذلك. وقد تدخل الجيش أخيراً في هندوراس لمنع الرئيس من تعديل الدستور لكي يتمكن من التمديد لنفسه، حفاظاً على الديمقراطية! لكنّ هذه المقارنة غير مفيدة. فهؤلاء الذين يريدون التجديد لأنفُسهم وصلوا في المرة الأولى على الأقلّ بالانتخاب. أمّا المخلَّدون من جمهوريي العالم العربي فقد وصلوا للسلطة قبل عقود بالانقلاب أو بالوراثة. ثم إنّ الرؤساء الممدِّدين بأميركا اللاتينية كلُّهم من الشعبويين اليساريين الذين يتوسلون للاستمرار بمعاداة الولايات المتحدة، أما جمهوريو العالم العربي فهم جميعاً من أصدقاء الولايات المتحدة أو صاروا كذلك! يبقى أنّه بغضّ النظر عن مقاييس النجاح والفشل، هناك سِماتُ: الاستقرار، والسياسات التنموية، والتداول السلمي على السلطة، وصون الحقوق الأساسية للمواطنين؛ وهي سِماتٌ عالميةٌ، ما عاد تجاهُلُها ممكناً؛ مهما اعتذرْنا لذلك بمنع التدخلات الإمبريالية أو بمكافحة الصهيونية!