في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، أنتجت هوليوود فيلم الغيبوبة \"كوما\"، وقد نجح وقتذاك نجاحاً ساحقاً. وتدور أحداثه داخل مستشفى خاص يُديره أحد الأطباء الكبار. وتقود الأقدار طبيبة شابة إلى العمل فيه. وتُلاحظ الطبيبة أن عدداً من المرضى الذين يجرون عمليات جراحية يخرجون من غرفة العمليات وهم في حالة غيبوبة تامة. وتتلاحق الأحداث لتكتشف الطبيبة في النهاية أن أستاذها في كلية الطب والذي يعمل كمدير عام للمستشفى، وراء هذه العمليات المشبوهة والمتورط الرئيسي فيها، وأن الغرض من إبقاء المرضى تحت الغيبوبة حتّى تظل أعضاؤهم حية، ليستفاد منها في تلبية طلبات الشراء لمرضى بحاجة إلى كلية أو قلب أو غيرهما. الفيلم حينذاك خلق جملة من التساؤلات حول موضوعه المتعلّق بالخيال العلمي وبمافيا المتاجرة بأعضاء البشر، حيث رأى البعض أنها قصة مبالغ فيها. لكن مع التقدّم العلمي الهائل في مجال زراعة الأعضاء البشرية، غدت قصة الفيلم كأنها تنبأت بوقائع المستقبل، حيثُ تأسست شبكات واسعة للمتاجرة في أعضاء البشر، وهناك قصص واقعية تقشعر لها الأبدان مُسجلة في مخافر الشرطة في عدد من الدول العربية والغربية، تجاوزت الخيال العلمي الذي صوّره مخرج فيلم \"الغيبوبة\". بلا شك أن المناطق التي ينتشر فيها الفقر، والتي تُعاني شعوبها من ويلات الحروب، وتلك التي تعيش تحت نير الاحتلال، ويتساقط فيها الضحايا بالمئات يوميّاً، تُصبح أرضها وعاء خصباً لعصابات تجارة الأعضاء البشرية، مستغلين الفوضى الأمنية الحاصلة لتنشيط تجارتهم! الصحفي السويدي \"دونالد بوستروم\" فجّر في الأيام الماضية أزمة بين بلاده وبين إسرائيل، وذلك بعد أن كتب مقالا بصحيفته يتهم فيه الجنود الإسرائيليين المتاجرة بالقتلى الفلسطينيين، وذلك بسرقة أعضائهم وتسليم جثثهم لأهاليهم فارغة البطون!! وتعتبر هذه تهمة جديدة من نوعها في أن يتجرّأ صحفي غربي على التحدّث عن هذه الواقعة الخطيرة!! الصحفي السويدي يتعرّض حالياً لهجوم عنيف من الإعلام الإسرائيلي، وتتهمه كعادتها أنه مُعادٍ للسامية باختلاقه هذه \"الأكاذيب\"، ولكن الصحيفة السويدية تمسّكت بحق صحفييها في كتابة ما يرونه صحيحاً كونه جزءاً لا يتجزأ من حرية التعبير التي يكفلها لهم دستور البلاد. حقيقة أنا مندهشة من الإعلام العربي وتجاهله التام لهذه القضية! ولا أعرف سبباً مقنعاً يمنع إعلامنا بقنواته المختلفة من إثارة هذا الموضوع الحساس!! ولا أدري لماذا دوماً الفضائح المشينة، والأهوال الكبيرة، التي تجري في منطقة الشرق الأوسط من محيطها لخليجها لا يقوم إعلامنا بفضحها، بل تقوم وسائل الإعلام الغربية بكل هذه الأعمال البطولية نيابة عنّا!! هل يعود هذا إلى أن حكوماتنا لم تعتد على حماية كتابها وصحفييها، بل تتعمّد محاصرتهم وتأديبهم بين فينة وأخرى تلافياً لوجع الرأس؟! هل يرجع هذا إلى الجفاء المستمر بين الصحفي والكاتب وبين حكومته لاعتقادها بأن سياسة القمع وكتم الصوت، هي الطريق الأسلم لبناء مجتمع آمن لا يرى، لا يسمع، لا يتكلّم؟! من الواضح أن الإعلام العربي متورط إلى أخمص قدميه، في تغاضيه عمداً عن مصائب شعوبه أو فضح ألاعيب مسؤوليه، أو انتقاد سياسة حكوماته!! بجانب هوسه الدائم باللهاث خلف الفنانة \"الفلانيّة\" لمعرفة أخبار طلاقها الأخير، أو دفع آلاف الدولارات لاستضافة المطرب \"العلاني\" ليتحدّث عن مشواره الفني الذي أحدث انقلاباً في دنيا الفن!! يجب ألا تمر هذه القضية بسلام، وأن تتكاتف الأقلام العربية مع الصحفي السويدي \"دونالد بوستروم\"، والمطالبة بوجوب فتح تحقيق موسّع بمشاركة الأمم المتحدة ولجان حقوق الإنسان، لإثبات تورط الجنود الإسرائيليين في سرقة أعضاء القتلى الفلسطينيين ومحاسبة المتورطين فيها وتقديمهم للعدالة. ألا يكفي أن الشعب الفلسطيني الذي يعيش تحت وطأة الاحتلال منذ عدة عقود، وينام ويستيقظ على أصوات المدافع، حُرم العيش في أمان، ليُفاجأ بمن يدوس على كرامة قتلاه التي لا تملك الحق في الدفاع عن نفسها. تُرى هل أصبح العلم أكبر مدمر للبشرية، أم أن العلم بريء مما يُرتكب باسمه؟! هل الضمائر الحيّة دخلت في حالة غيبوبة طويلة وبحاجة لمن يهزها ويرمي على وجهها ماء مثلجاً، لكي تتراجع عن وحشيتها وتحترم آدمية الإنسان في كل مكان على وجه الأرض؟! أسئلة بحاجة لوقفة صادقة.