تعتبر الصين اليوم أكبر شريك تجاري للهند. ولهذا التحول في العلاقات بين الدولتين أهمية خاصة بالنظر إلى تاريخ العداء السابق بينهما، لا سيما الحرب الحدودية التي خاضتها كل منهما ضد الأخرى، في عام 1962. وكانت النزاعات قد بدأت على إثر ترسيم المستعمرين البريطانيين للخط الحدودي الذي عرف باسم خط \\\"ماك- ماهون\\\"، ضمن ملابسات كانت تجسيداً فعلياً لسياسة \\\"فرّق تسد\\\" المعروفة حينذاك. وكانت للصين ادعاءات بتبعية حوالي 90 ألف كيلومتر مربع من الأراضي داخل ولاية \\\"أروناشال براديش\\\" الهندية. وعلى هذه الخلفية، دارت تلك الحرب الحدودية على ارتفاع 17 ألف قدم في مرتفعات \\\"أكساي شن\\\" الواقعة في منطقة تسمى \\\"لاداخ\\\" ضمن سلسلة جبال الهملايا المشهورة. ولم يكن النصر حليف الهند في تلك الحرب التي خسرت فيها 35 ألف كيلومتر مربع من أراضي ولايتها المذكورة، إضافة إلى مقتل المئات من جنودها. وتوقفت الحرب على إثر إصدار الصين إعلاناً أحادياً من جانبها بوقف إطلاق النيران. لكن ظلت الدولتان على عدائهما اللدود لبضعة عقود لاحقة، بينما استمرت ادعاءاتهما وخصوماتهما مستمرة حول الأراضي الحدودية المذكورة. وقد أعقب اغتيال رئيسة الوزراء الهندية أنديرا غاندي تولي ابنها راجيف غاندي لمنصب رئيس الوزراء. وقد قطع هذا الأخير على نفسه وعداً بحل تلك النزاعات عبر الحوار الثنائي بين الدولتين الكبيرتين، اللتين تعدان الأعلى كثافة سكانية على مستوى العالم. وقد دفعه ذلك الحماس إلى كسر طبقة الجليد التي ظلت عازلة لزمن طويل بين نيودلهي وبكين، فكان أول رئيس وزراء هندي يزور الصين بعد نهاية الحرب بينهما، وذلك في عام 1985. وعلى رغم إحداث تلك الزيارة التاريخية تغييرات واضحة على أجواء العلاقات بين الدولتين، بما في ذلك تزايد استعداد كل منهما للحوار المشترك، واتخاذهما مواقف موحدة تقريباً في عدد من القضايا الدولية، مثل التغير المناخي ومحادثات جولة الدوحة للتجارة الدولية وغيرها، إلا أن ضغط النزاع الثنائي الحدودي بينهما ظل قائماً، كما ظل التجاذب الدفين متبادلاً ومستمراً تحت سطح التنسيق الثنائي الخارجي. وغني عن القول إن مثل هذه الخلافات المكبوتة من شأنها أن تؤثر سلباً على صفاء مياه العلاقات الثنائية بين الدولتين الجارتين مهما حاول الطرفان إخفاءها. وفي إطار الاستعداد للمحادثات الحدودية المرتقبة بين الصين والهند خلال الشهر الجاري، فقد ذكَّرت بكين جارتها نيودلهي مجدداً بهذه المسألة المتنازع عليها خلال اجتماع \\\"بنك التنمية الآسيوي\\\"، الذي حضرتاه معاً. فبإثارتها لمزاعمها حول تبعية المساحة المشار إليها سابقاً من ولاية \\\"أروناشال براديش\\\" الهندية، رمت بكين إلى سد الطريق أمام تمويل \\\"بنك التنمية الآسيوي\\\" لمشروع ري زراعي في الولاية المتنازع على أراضيها. ويعد ذلك المشروع ضمن سلسلة من المشروعات التنموية التي تسعى الهند للحصول على قروض خارجية لتمويلها من قبل \\\"بنك التنمية الآسيوي\\\". بالنسبة لنيودلهي، فقد كانت تلك الخطوة التي اتخذتها بكين بمحاولة الاعتراض على تمويل خارجي عبر منبر آسيوي متعدد الأطراف والأعضاء مفاجئة للغاية. فعلى رغم استمرار المحادثات الثنائية بين الدولتين الجارتين حول الأراضي الحدودية المتنازع عليها، إلا أن هذه كانت هي المرة الأولى التي تثير فيها بكين الأمر من خلال منبر متعدد الأطراف، وبعيد كل البعد عن أمور السياسة وسجالاتها. يذكر أن عنصر المفاجأة وحده، كان سبباً كافياً لتبرير قوة ردة فعل الهند على ذلك السلوك الصيني، إذ أكد وفدها لدى اجتماع \\\"بنك التنمية الآسيوي\\\" أن الوضع القانوني والسياسي لولاية \\\"أروناشال براديش\\\" لا يقبل التفاوض عليه، ولا المساومة فيه، مع أي جهة كانت. وانتهت تلك المواجهة التي تمت بين الوفدين الصيني والهندي إلى سحب نيودلهي لطلبها الذي تقدمت به إلى البنك الآسيوي بغية الحصول على قروض خارجية منه لتمويل مشروعاتها التنموية المذكورة، مع إصدار قرار بتوفير مصادر داخلية ذاتية للتمويل المطلوب. هذا، وتشير جميع المؤشرات إلى استمرار بكين في إثارة هذه المسألة وقتما وكيفما شاءت، وفقاً لما يخدم مصالحها وأغراضها في الوقت الذي تراه. وها هي بكين تثير الأمر مجدداً مع ملاحظة أن توقيت مزاعمها الحدودية هذه جاء سابقاً لاجتماع المحادثات الحدودية بينها وبين نيودلهي، وبعد مضي ما يقارب العام الكامل من انقطاع تلك المحادثات بين عاصمتي البلدين. يذكر أن هذه المحادثات لم تحقق تقدماً ملموسا خلال السنوات الثلاث الماضية، إذ تعثرت في التفاوض على بلدة \\\"توانج\\\" الواقعة في ولاية \\\"أروناشال\\\"، مع العلم بأنها هي البلدة التي ولد فيها \\\"الدالاي لاما\\\" السادس، وتتمسك بكين بادعاء أنها بلدة تابعة لحدودها. وفي إطار السعي لإيجاد مخرج لأزمة النزاع الحدودي، قررت الدولتان مناقشة المسألة هذه على ثلاث مراحل. وقد اكتملت أولاها سلفاً باتفاق نيودلهي وبكين على مجموعة من المبادئ التي تدار بموجبها المفاوضات فيما بينهما. وتتلخص هذه المرحلة في توقيع كل من عاصمتي البلدين على اتفاق في شهر أبريل من عام 2005، عرف باسم \\\"المبادئ السياسية العامة الموجهة\\\". هذا ويجري العمل حالياً على المرحلة الثانية، إذ يسعى وفدا الدولتين إلى وضع إطار عام للتسوية النهائية للنزاع الحدودي بينهما. وأما المرحلة الثالثة والأخيرة، فتتمثل في الترسيم الفعلي للحدود النهائية بين الدولتين. وفيما يبدو، فقد تحقق تقدم مقدر في المفاوضات الجارية بشأن المرحلة الثانية من حل النزاع. والراهن أن الخلاف الحدودي لايزال قائماً بين الدولتين، إلا أنهما سمحتا للتعاون المشترك بينهما في عدد من القضايا الأخرى بالاستمرار السهل والسلس، ودون تأثر، كما نرى. وبهذا ننتقل إلى القول إن من الأهمية النظر إلى العلاقات الهندية- الصينية في ضوء تحولات النظام الدولي العالمي. وضمن هذه التغيرات، طرأ تغير ملحوظ على نهج تعامل واشنطن مع بكين على سبيل المثال. وأهم سمة لهذا التغيير هي تجنب إدارة أوباما الجديدة لنهج \\\"احتواء الصين\\\" الذي تبنته إدارة بوش السابقة. وللتذكير، فإن ذلك النهج كان يقوم على نظرة واشنطن إلى الهند باعتبارها لاعباً إقليمياً مهماً في المنطقة، بينما تسعى واشنطن، في الوقت نفسه، إلى زيادة تعاونها مع بكين في عدد من القضايا الكبرى، ومن بينها، على سبيل المثال، الجهود الدولية لمواجهة تداعيات الكساد الاقتصادي العالمي. وهنا نصل إلى نقطة ختامية جوهرية. فمع ما نرى من تنامٍ إقليمي آسيوي لنفوذ كل من الهند والصين، فإننا نتوقع منهما أن تتحليا معاً بما يكفي من الحكمة كي يتسنى لهما تبني سياسات مرنة بشأن نزاعهما الحدودي، والاستمرار في التفاوض على إيجاد حل عادل وحكيم له. وليذكر قادة الدولتين أنهم على رأس دولتين نوويتين وأن لكل منهما كثافة سكانية تزيد على المليار نسمة، وأن المسؤولية تقع عليهم، أولاً وأخيراً، لسد حاجة هذه الكثافة السكانية العالية من الغذاء وتأمين رخائها. ومما لا ريب فيه أن تنامي الشراكة التجارية بينهما مؤخراً يعد مؤشراً إيجابياً على قدرة كل منهما على تجاوز فخ النزاع الحدودي والتحرر من قفصه. غير أن هذا لا يمنع القول أيضاً بوجود عدد من القضايا الحساسة بين الدولتين الجارتين، لعل في مقدمتها التنافس الشديد على توفير مصادر الطاقة اللازمة لدفع نمو اقتصاد كل منهما.