منذ نشأته في 1979، قام النظام الخمينيّ على دعامتين: كونه جمهوريّة من جهة، وكون الجمهوريّة إسلاميّة من جهة أخرى. أي أنّه دمج حكم الشعب حيث ينبثق القرار من إرادة الأكثريّة، بولاية الفقيه، كونها النظريّة المعتمدة للحكم الإسلاميّ، حيث اليد العليا للمرجع الذي أُعطيت له، بحسب الخميني نفسه، كافة الصلاحيّات. وهذا التزاوج بين \\\"الجمهوريّة\\\" و\\\"الإسلاميّة\\\" ينطوي على تناقض لا سبيل إلى إخفائه أو تمويهه. لكنْ لم يكن ممكناً في تجربة بلد كإيران القفز كليّاً فوق \\\"الجمهوريّة\\\" أو التغاضي عن العمليّة الانتخابيّة، مع أن هذه الرغبة سبق أن راودت الخميني نفسه. ومردّ ذلك، في أغلب الظنّ، أن الوطنيّة الإيرانيّة الحديثة، والتي شكّل بعض رجال الدين أحد مكوّناتها، اصطبغت دائماً بالنزعة الجمهوريّة والشكل الانتخابيّ. هكذا، مثلاً، كانت \\\"المشروطيّة\\\"، أو الثورة الدستوريّة في 1906، وهي التي شارك فيها رجال دين ربّما كان أبرزهم السيّد حسين النائيني (وإن ناهضها رجال دين آخرون)، وأفضت، في آخر المطاف، إلى إنشاء البرلمان. وكذلك، فإن حركة محمّد مصدّق في أوائل الخمسينيات، والمدعومة في بداياتها من آية الله كاشاني، استندت إلى البرلمان والحكومة المنبثقة منه في مواجهتها مع الشاه والاحتكارات النفطيّة. ولأنّ مصدّق قد أطيح عبر الانقلاب العسكريّ الذي قاده الجنرال زاهدي والمدعوم من وكالة الاستخبارات المركزيّة الأميركيّة (سي أي آيه)، غدت الدستوريّة لوناً راسخاً وثابتاً من ألوان العمل الوطنيّ في إيران، على عكس حالنا في العالم العربيّ. على أيّة حال، جاءت التسوية التي عقدها النظام الخمينيّ بين \\\"الجمهوريّة\\\" و\\\"الإسلاميّة\\\" لتطلق العمليّة الانتخابيّة على مصراعيها، بما في ذلك إجراء الانتخابات بكثرة وإفراط على المستويات الوطنيّة والمحليّة جميعاً، ولتضبطها، من ناحية أخرى، عبر قناة تتولّى التمييز بين المسموح لهم بالترشّح وغير المسموح. وما حصل مؤخّراً كان بالضبط انكساراً في إيديولوجيّة المشروع الخمينيّ هذا، أو أنّه أزمة في فضاء شرعيّته الإيديولوجيّة ذاتها. ففي هذه البنية، ظهر التصدّع، وليس في البنية القمعيّة والأمنيّة: فما من انقسام طرأ على الجيش مثلا، وما من قوّة عسكريّة طرحت نفسها طرفاً منافساً لـ\\\"الحرس الثوريّ\\\" وميليشيا \\\"الباسيج\\\"، وكذلك لم يظهر، حتّى إشعار آخر، أيّ تراجع في القدرة على ممارسة القمع... وحين تظهر الأزمة في المشروعيّة التي يُحكم بها المجتمع وتتراجع القوّة القمعية للإيديولوجيا، فهذا ما يملك دلالات ضخمة، لا سيّما في ظلّ نظام تلعب الإيديولوجيا فيه دوراً مركزيّاً. بيد أن ذاك الانكسار ليس بجديد، وإن ظلّت تجلّياته السابقة مُحتواة ومسيطراً عليها لأسباب باتت معروفة جيّداً: ففي بدايات العهد الثوريّ، انفجرت إشكالات العلاقة مع أوّل رئيس حكومة جمهوريّ هو مهدي بازركان، ثمّ مع أوّل رئيس جمهوريّة هو أبو الحسن بني صدر، فضلاً عن كتلة ضمّت بعض الذين درسوا في الغرب وراهنوا على إسلام ليبراليّ، إضافة إلى كونه جمهوريّاً، من أمثال إبراهيم يزدي وقطب زادة وسواهما. ولكنّ ذاك التناقض تمّت تسويته بفعل دور الخمينيّ التحكيميّ آنذاك، كما أنّ الحرب مع العراق، دفعت في الاتّجاه ذاته تحت وطأة التلاحم ضدّ عدوّ ينبغي رصّ الصفوف في مواجهته. ثمّ على امتداد التسعينيات شهدنا محاولات كثيرة ومتفاوتة لهاشمي رفسنجاني ومحمّد خاتمي هدفها تطبيع علاقات الحكم الإيرانيّ بالعالم وتحديث الحياة السياسيّة بما يتلاءم مع مستجدّات العولمة. وفي هذا السياق، كانت إجراءات الخصخصة التي بدأها خاتمي في سنته الرئاسية ما قبل الأخيرة عام 2004، ثمّ استأنفها نجاد بهمّة أكبر (وتكاد الخصخصة، رغم شعبويّة نجاد، تكون القاسم المشترك الأبرز بين التيّارات السياسيّة الإيرانيّة). ولم تخلُ العلاقة من انفجارات كان أبرزها الانتفاضة الطلابيّة في 1999 والتحرّكات التي استمرّت للسنوات الخمس المقبلة، قبل أن يقمعها المناخ الذي أوجدته حربا أفغانستان والعراق، فضلاً عن انحصار المطالب في قطاعيّة مجزّئة لها، وعدم توافر قيادة موحّدة وفعّالة. أمّا الآن، فقد اختلف المعنى، حيث تصدّر الأعمال الاحتجاجيّة رجال أساسيّون في النظام كرئيسي الجمهوريّة السابقين رفسنجاني وخاتمي، ورئيس الحكومة السابق مير حسين موسوي، ورئيس مجلس الشورى السابق مهدي كرّوبي، فيما صدرت فتوى من آية الله منتظري في جواز التمرّد. وهذا من دون أن يكون هناك موقع يحظى بالإجماع الذي كان يحظى به الخميني. لكنّ الانتفاضة الأخيرة اكتسبت خصوصيّتها الأهمّ من التعبئة الجماهيريّة الواسعة التي رافقتها، مما أُتيح للعالم كلّه، وعلى مدى أيّام، أن يراه. وكان من الأسباب التي ساعدت في انفجار البنية الايديولوجيّة -الشرعيّة أن الفجوة ازدادت اتّساعاً بين ممارسات الطبقة الحاكمة والمثالات التي تعطيها الشرعيّة (الفساد، المحسوبيّة ومحاباة الأقارب، تنامي الهوّة الطبقيّة، الوضع الاقتصاديّ عموماً لا سيّما في ظلّ الأزمة الماليّة العالميّة...). وكذلك تعاظمت المسافة بين الرأي العامّ المدينيّ وبين الإيديولوجيا الرسميّة تبعاً للعلمنة المتزايدة التي طرأت على القيم والمواقف الاجتماعيّة، وكان للإعلام والاتّصالات دور أساسيّ في هذا. وهنا، جاء شعار \\\"أين صوتي؟\\\" ليشير إلى اتّساع المطالبة بالتمثيل وبوقف التفويض المعطى لنخبة الحكم الإسلاميّ ولإيديولوجيّتها. وكذلك عمل على تصعيد الانتفاضة أن التوقّعات التي رفعتها كثيراً، قبيل الانتخابات، النقاشات التلفزيونيّة وسجالات المرشّحين، ما لبثت أن قُمعت عبر استخدام نظام الرقابة الانتخابيّة لإسقاط الإصلاحيّين. أمّا وقد حصل ما حصل مما بات معروفاً، فماذا عن المستقبل؟ لقد نجح النظام في كسر الأشكال التنظيميّة السابقة والمعمول بها (بما فيها مراكز الاقتراع والمنظّمات الطلابيّة العفويّة النشأة ووسائط التواصل الإلكترونيّ والإنترنت). لكنْ بقيت وتبقى الأزمة المتواصلة المتعلّقة بشرعيّة النظام. وهذه، إذا ما كُتب للتغيير أن يشقّ طريقه، لا بدّ من اقترانها بعنصر أو عنصرين، أو بالاثنين معاً: من جهة، تراجع في قدرة النظام على ممارسة القمع، وهذا مرشّح للحصول في ظلّ تزايد التعويل على القمع تعويضاً عن نقص الشرعية، وذلك ما تشي به المعلومات المتوافرة عن السجون والاعتقالات والاتّهامات الموجّهة لـ\\\"الأجانب\\\"... إلخ. ومن جهة أخرى، التجدّد المتواصل لقيادة التحرّك وقدرتها الدائمة على توسيع قاعدته إلى مزيد من الفئات الاجتماعيّة والقوميّات والإثنيّات. فإذا قُيّض حصول تحوّلات على هذين المستويين أمكن الرهان الجدّيّ على بدايات نهاية النظام الخمينيّ.