يطرح بعض مفكري الغرب المحدثين فكرة أن علماء السياسة مخطئون حين يطرحون السؤال حول ماهية الوطن، أي ما هو الوطن؟ لأن سؤالاً من هذا القبيل يفترض سلفاً وجود شيء حقيقي وكبير حول الأوطان، وبأنها واقعية تحتوي على تجمعات سكانية، ومتجانسة داخلياً ولها حدود خارجية مؤطرة، وثابتة ومعطاة. ولا يطرح مثل هذا الادعاء من يسمون بالأصوليين، بل إن أصحاب الحداثة أيضاً يفترضون واقعية الأوطان وبوجود التجمعات السكانية الوطنية. وهنا، فإن الأصح هو أن لا يتم الحديث عن الأوطان دون الحديث عن الوطنية، أي أنه من الواجب عدم القيام بتحليل الوطنية دون وجود الأوطان. إن الممارسات الوطنية والمؤسسات السياسية والأحداث الطارئة وحدها هي التي تخلق الوطنيين والشعور بالهوية الوطنية، وعليه فإن أصول الأوطان كممارسة والمؤسسات والأحداث يجب أن يتم البحث عنها في سياسات وممارسات الدول، بالإضافة إلى الأمور الطارئة التي تفزز الوطنيين بشكل مفاجئ. وهذا الطرح يعتبر ببساطة الأحدث في سلسلة من التحاليل المهمة التي تسعى إلى إعادة بناء مقولة الوطن، ويكشف عن طبيعة الوطن المتخيلة، وربما المخترعة أو المختلقة. وهذا الخط من التفكير أخذ في الآونة الأخيرة يتكرر في فكر عدد من علماء السياسة الغربيين الباحثين في شؤون الأوطان والأمم والوطنية كبنيلايكت أندرسون وإيريك هوبسباوم Hobsbaum. وضمن هذا الخط من التفكير تم تبني المنهج نفسه القائم على نقد الواقعيين، ليس باسم المؤسسية السوسيولوجية الجديدة ولكن ضمن مقولات ثقافة إعادة بناء ما بعد الحداثة ضمن الإطار الماركسي الكلي العام. وإذا ما رجعنا إلى الوراء بعمق أكبر، يمكن أن نجد إصراراً مشابهاً من نظرية \"إيزينست جيلنر\"، التي تقول إن الوطنية هي التي تخترع الأوطان عندما لا تكون تلك الأوطان موجودة عوضاً عن حدوث العكس، كما أن الوطنيين ذاتهم هم الذين يحوزونها، وإذا ما أخذنا طرح إيلي قدوري بأن الوطنية هي مبدأ تم اختراعه في أوروبا مع بداية القرن التاسع عشر، فإن الحلقة تكون قد اكتملت. إن النتيجة التي تقول إن الأوطان والوطنية هي أمور مختلفة وفنون ثقافة واقعية تجعلنا نواجه عدداً من المشكلات الجدية. وأكثر تلك المشاكل إلحاحاً مشكلة التضحية بالنفس من أجل الوطن: فلماذا يكون العديد من البشر مستعدين للتضحية بأنفسهم من أجل ما يعتبر ثقافياً، واختراعاً من مخيلتهم الذاتية؟ وكيف لهذا التقليد المخترع بالذات أن يولد ذلك الحماس؟ وكيف لاختراع أوجده فلاسفة ألمان في بداية القرن التاسع عشر أن يولد رد الفعل القوي هذا؟ وتوجد أسئلة أخرى أيضاً: فأولاً، إذا كان من المؤكد أن الوطن عنصر تم اختراعه وبأن الوطنية هي اختراع أو فبركة من صنع المثقفين والسياسيين، فلماذا دخلت أيديولوجيا الوطنية وما يرتبط بها من مقولات ونظريات قرنها الثالث ومازالت مستمرة بقوة، ولماذا يستمر البشر في الشعور القوي بالارتباط والولاء للوطن؟ وكيف فشلوا في رؤية الحقائق المغايرة لذلك، وبأنهم يحاربون ويموتون في سبيل \"سراب\" و\"خرافة\"، وبأن لا شيء يبدو يهز شعورهم بالوطن وتحالفهم معه؟ ثانياً، توجد مشكلة أن العديد من شعوب عالم اليوم في شرقه وغربه تبدو غير قادرة على تعلم الدروس المستقاة من أنماط الوطنية التي ظهرت باكراً في تاريخ البشرية، فلماذا أصبحت الوطنية ورغبة البشر في العيش في أوطانهم الخاصة تطلعاً مثالياً لكافة أمم الأرض؟ إن الوطنية في هذا السياق تبدو وكأنها كلية الوجود مثلما هي سرمدية البقاء. ولماذا لا تلتئم شعوب القارات الثلاث آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية التي تعاني من عدم المساواة والظلم ضمن وضع الدولة الوطنية الحالي إلى بعضها بعضاً وتخرج بأمر جديد يتصدى لهذه الظاهرة السرمدية التي تعمل كعائق صلب أمام أحلامهم وتطلعاتهم كشعوب تسعى إلى التقدم السريع والمساواة العالمية؟ ثالثاً، وبالإضافة إلى كونها كلية الوجود وسرمدية أصبحت الأوطان والوطنية ظاهرة جماهيرية تعم كافة طبقات مجتمعات العالم، فجميع أشكال الفئات الاجتماعية والطبقات، عاليها ومتوسطها والواقع منها في أسفل الدرك الاجتماعي أصبحت مرتبطة بأوطانها. فإذا ما كانت الأوطان ببساطة ظاهرة ثقافية من صنع البشر، فلماذا استطاعت الوطنية أن تتوغل إلى أعماق كافة الأراضي الداخلية لكل قُطر وإلى اعتقاد وتفكير كافة فئات وطبقات وتقسيمات المجتمعات المعاصرة؟