تجارب الاقتصادات الناشئة ------------ هل لدى الدول النامية أمل في التحرر من حلقة "التأخر" التي تحيط بها منذ فترة طويلة؟ سؤال يطرحه الدكتور عبدالله رزق في كتابه "اقتصادات ناشئة في العالم"، والذي نعرضه هنا بإيجاز. وإن كان الكاتب قد صدر في ظل الأزمة المالية التي ضربت الاقتصاد العالمي، وضمنه الاقتصادات الناشئة، فإن المؤلف دفعه إلى النشر مع بداية فصل التباطؤ في الاقتصاد الأميركي، حيث توقع أن تتحول أزمة الرهن العقاري الأميركية في حينها إلى أزمة اقتصادية عالمية، ستتمادى في تأثيرها على الاقتصادات الناشئة، مع وجود إمكانية لدى هذه الأخيرة لأن تعاند المسار وتستمر في التطور والنمو، لاسيما حين يتعلق الأمر باقتصادات غنية كالصين والهند وروسيا والبرازيل... التي أظهرت أداء اقتصادياً منفصلا عن الأداء الاقتصادي للدول المتقدمة، كما قاربت نسبة نموها نحو 9 في المئة مقارنة بـ1,3في المئة فقط لدى الاقتصاد الأميركي. وإلى ذلك فإن هذه الاقتصادات الناشئة تستطيع المحافظة على نموها بفضل عوامل عدة؛ مثل النمو السريع لإنتاجية العمل فيها، والعدد المتزايد لأثريائها، والتدفق الرأسمالي الذي ينهال عليها، والتفوق الذي يطبع قطاعها البنكي، وكذلك أسواق الأسهم فيها أيضاً. ويعقد المؤلف فصلا خاصاً لإبراز ملامح القوة في اقتصادات مجموعة الدول التي تعرف باسم "بريك" (bric)، وهو رمز لدول البرازيل وروسيا والهند والصين، التي تمثل 45 في المئة من سكان العالم، ويتوقع لها أن تسيطر على ثلثي الاقتصاد العالمي، وأن يتجاوز حجم اقتصاداتها نظيره لدى مجموعة الدول الست (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان وإيطاليا)، خلال العقود الثلاثة القادمة. ورغم أن مجموعة "بريك" لا يشملها تحالف سياسي مثل الاتحاد الأوروبي، أو أي تجمع تجاري مثل مجموعة "الآسيان"، فإنها تنسق للتأثير في الاتفاقات التجارية الأساسية، وذلك بدفع من روسيا التي تؤدي دوراً كبيراً في بلورة تحالف بين دول المجموعة. وواقع الحال أن هذه المجموعة قادرة على تشكيل كتلة اقتصادية قوية تضاهي مجموعة "الثماني الكبار"، وذلك أولا لكونها من أكثر الدول تطوراً في المجال الاقتصادي، وثانيا لكونها مزودة بالمواد الخام (البرازيل)، وموفرة لمصادر الطاقة (روسيا)، ومركزاً خدماتياً (الهند)، وموقعاً إنتاجياً (الصين). ثم يخصص المؤلف فصلا لكل اقتصاد من اقتصادات "بريك" الأربع، كنماذج تنموية لافتة. وفيما يخص الصين التي كانت تنيناً في حالة سبات، كما قال نابليون حين حذر من إيقاظه خشية أن يزلزل العالم، فإن سباتها لم يدم طويلا، بل تحققت نبوءة بونابرت، وبعد 60 عاماً على ثورتها صارت الصين ثالث أكبر اقتصاد في العالم، بعد الولايات المتحدة واليابان، وقد تبلورت تجربتها أوائل السبعينيات مع موجة الخصخصة، ثم تعززت بإنشاء بنوك لتمويل المشروعات الصغيرة، وتحول البنوك إلى هيئات تجارية. وعملت الصين على تطوير بنيتها التحتية، وعمقت إنجازاتها في مجالات الصحة والتعليم والتكوين... لتشكل أرضية صالحة للنمو ولتشجيع القطاع الخاص الذي يشكل اليوم 70 في المئة من اقتصاد الصين، ومحركاً لاندفاعتها الاقتصادية الكبرى. وبانتقالها من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاد السوق، حاولت الهند أن تحذو حذو الصين، وقد بدأت قفزتها الكبرى في أواخر القرن الماضي، إذ يتوقع أن تصبح بنسبة نموها الذي يقارب 9 في المئة سنوياً، واحدة من الستة الكبار في غضون السنوات القادمة، وها هي فعلا تحقق السبق في اقتصاد البرمجة وتكنولوجيا المعلومات. أما البرازيل، عملاق أميركا اللاتينية، فتحاول تحريك اقتصادها كأقدام لاعبيها، وتتهيأ لدخول نادي الستة الكبار في منتصف القرن الحالي. وقد تميزت البرازيل بوفرة إنتاجها من البن وقصب السكر والأخشاب والمعادن... لكن بسبب ضعف مصادرها من الطاقة تتوجه الآن إلى الإيثانول. بيد أن البرازيل لم تستسلم لمواصفاتها التاريخية، بل انطلقت من نواحيها الإيجابية، لتعالج الإعاقات التي كبلتها، حيث قامت بتغييرات هيكلية وبنيوية، أطلقت من خلالها طاقاتها الكامنة، ونوعت من قطاعاتها، وبدلت من أولوياتها في إطار الليبرالية الاقتصادية والخصخصة. ثم أخيراً يتطرق الكتاب إلى "نهوض روسيا... بين عبء التركة والطاقة الكامنة"، فوريثة الاتحاد السوفييتي التي تسابق للعودة إلى مصاف الدول العظمى اقتصادياً، تستعيد اليوم مقولة الإنتاج "الضخم" من التعدين والآلات والكيماويات ومواد البناء والأخشاب والصناعات الغذائية، وكذلك البنية التحتية من كهرباْء وطرق وسكك حديدية وقنوات مائية ومطارات وأساطيل بحرية وجوية... جميعها تذكر بالعهد السوفييتي ومبالغاته الحجمية. ولا يكتفي المؤلف بهذه النماذج الأربعة، بل يعرض أيضاً لنماذج أخرى من شرق ووسط أوروبا باتت على مشارف اقتصاد المعرفة؛ مثل هنجاريا ورومانيا وبولندا وبلغاريا وتشيكيا وسلوفاكيا وأوكرانيا واستونيا ولاتفيا وليتوانيا وسلوفينيا. وكذلك بعض الاقتصادات الآسيوية والأميركية اللاتينية الناشئة، مثل إيران وتركيا والنمور الآسيوية والأرجنتين والمكسيك. وبالمعالجات التفصيلية العميقة التي تضمنها كتابه، يقدم المؤلف قراءة في بعض الاقتصادات الناشئة، وآليات تطورها، والمراحل الانتقالية التي مرت بها، والإصلاحات الهيكلية التي أجرتها، والنماذج التنموية التي اتبعتها... فيرسم لوحة تفصيلية عن كل دولة من دول الاقتصادات الناشئة، مما يتيح للقارئ إمكانية التعرف على اتجاهات الفكر الاقتصادي وأدبيات التنمية في تقييمهما لتجارب الاقتصادات الناشئة، كما يدلل على وجود إمكانية حقيقية لخروج الدول النامية من ربقة التخلف. محمد ولد المنى --------- الكتاب: اقتصادات ناشئة في العالم المؤلف: د. عبدالله رزق الناشر: دار الفرابي تاريخ النشر: 2009