وسط هذه الأزمات المالية التي ضربت عالم اليوم، انصرف الاهتمام عن أزمة أخرى مهمة: إنها أزمة الثقة في القادة. فقد أشارت نتائج استطلاع للرأي العام أجري في عام 2008 من طرف "مركز القيادة العامة" التابع لمدرسة كينيدي بجامعة هارفارد، إلى اعتقاد نسبة 80 في المئة من الأميركيين بأن بلادهم تواجه أزمة في قيادتها. والفئة الأدنى حظوة بثقة الجمهور هي أصحاب الأعمال، إذ لم تتجاوز نسبة الذين قالوا إنهم يثقون بها على 45 في المئة فحسب. ولا تقل عنها تراجعاً سوى ثقة الجمهور بكل من الكونجرس والرئيس بوش. وليست عامة الجمهور وحدها هي التي تفقد ثقتها في قيادتها، بل إن هناك أيضاً مديرين كباراً يفقدون ثقتهم في قيادات شركاتهم. وهذا ما أكده استطلاع للرأي أجرته هذا العام مجموعة Booz & Company وشمل 828 من كبار مديري الشركات من مختلف أنحاء العالم وأوضحت نتائجه أن نسبة 40 في المئة من المستطلعة آراؤهم لا تثق بقدرة كبار القادة التنفيذيين على التصدي للأزمة المالية. هذا ويعتبر مفهوم القيادة نفسه جزءاً من المشكلة. والحق أن مفهوم الإدارة لم يسبق له أن خضع للتعريف الدقيق من قبل الذين يكثرون من استخدامه في علاقته التبادلية مع السلطة أو المواصفات الشخصية. فعلى سبيل المثال نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" عنواناً في عددها الصادر بتاريخ 10 أغسطس الجاري جاء فيه: "تضارب الأنباء يزعزع ثقة قيادة طالبان" في إشارة إلى تضارب الأنباء عن مصرع قائدها "محسود". والملاحظ أن كلمة "القيادة" استخدمت هنا للإشارة إلى من هم في السلطة أو إلى أولئك الذين يتولون أعلى المناصب في الحركة. وللمقارنة فلننظر الآن إلى مثال آخر من الصحيفة نفسها، إذ كتب فيها قارئ مشيراً إلى باراك أوباما بالقول: "إنه لأمر إيجابي جداً أن يكون لنا رئيس بعد مضي ثماني سنوات بذكاء أوباما وأنفته وقدرته على القيادة...". ويلاحظ هنا أن لفظة "القيادة" قد استخدمت في ارتباطها بالمزايا الشخصية السامية مثل اتساع الرؤية والكرامة والشجاعة والاستقامة الأخلاقية. وعادة ما تستخدم هذه الصفات في نعت الأشخاص الأفذاذ الذين يواجهون التحديات الصعبة الاستثنائية، الذين تركوا بصماتهم على مسار الأحداث واستطاعوا كتابة التاريخ بمواقفهم وأفعالهم. ومن هؤلاء أبراهام لينكولن، والمهاتما غاندي، وكمال أتاتورك، ونيلسون مانديلا، وأنور السادات، وميخائيل جورباتشوف... وغيرهم. وهناك من استطاع التأثير على سير الأحداث ولكن دون أن يسجل اسمه في التاريخ. ولكن من رأي الأكاديميين واختصاصيي ثقافة المنظمات والتغيير المؤسسي أن استخدام مصطلح "القيادة" ينبغي ألا ينحصر في وصف الشخصيات الفذة وحدها. كما يقول هؤلاء إن في الإمكان تعلم مهارات القيادة واكتسابها، ما يعني عدم صحة التعامل معها كما لو كانت موهبة استثنائية خارقة لا يمكن الإلمام بها. وهكذا برز مفهوم جديد عن القيادة باعتباره مجالا كاملا للدراسات المعنية بصقل الثقافة المؤسسية ووسيلة لرفع قدرات المديرين. وبالنتيجة سرعان ما تعددت النظريات الخاصة بالقيادة، ما استدعى من المديرين المتوقعين أن يعكفوا على دراسة خصائص الشخصيات القيادية الفذة والعمل على محاكاتها. وتشمل هذه العملية دراسة سلوكيات القادة، وتحليل خصائصها ومزاياها، مع الأخذ في الاعتبار بتغير المواقف والظروف. ومن آخر ما أسفرت عنه نظريات القيادة الحديثة أن نتوقع القليل من القائد والكثير من الفريق المساعد له. ولكن مهما كان الحديث عن إمكانية اكتساب مهارات القيادة، فإن من المستحيل تعلم بعض المزايا والخصائص مثل الرؤية والشجاعة وغيرهما من القيم الشخصية التي تبقى متفردة وعميقة في تكوين الفرد وبناء شخصيته. كما أن الفارق يظل قائماً بين "الإدارة" و"القيادة". فلا يمكن للأولى أن تصل إلى مقام الثانية ورفعة شأنها مهما كانت جودتها ونوعيتها. ذلك أن من أهم خصائص القائد قدرته على تخطي القوانين والاستماع إلى حدسه ورؤيته لما هو صائب وسط ضباب الواقع الكثيف المضلل. وهذا ما يجعل من أي قائد حقيقي ثورياً بالضرورة، لأنه يناهض الأوضاع القائمة ويسعى إلى تغييرها. غير أن أزمة الثقة الحالية في القيادة، لاسيما انعدام الثقة في قادة الاستثمار، تشير إلى ميل عام في أوساط الجمهور -بل وحتى بعض مديري الاستثمار- لعدم قبول مفهوم القيادة باعتبارها درجة أعلى من درجات الإدارة لا أكثر. وفي هذا الرفض ما يعني عدم قبول الجمهور لفكرة القيادة باعتبارها فكرة محايدة رمادية اللون. ذلك أن عامة الجمهور تتطلع إلى قيادة ذات رؤية واسعة، فضلا عن شجاعتها واستقامة سلوكها وتمتعها بمزايا التهذيب الإنساني العام. ومما يثير السخرية والدهشة معاً أن التحلي بهذه الخصائص والمزايا لا يتطلب من الإنسان أن يكون خارقاً أو خارجاً عن المألوف كي تنسب إليه. بل الصحيح أن غالبية الناس العاديين، من ذوي الخلفيات والمشارب الاجتماعية الثقافية المهنية المتباينة يتمتعون بها بكل هدوء وتواضع بعيدين كل البعد عن أضواء وضجيج المناصب الإدارية العليا في مختلف الصناعات والاستثمارات. ولو طبقنا هذا المفهوم للقيادة على المستوى الدولي، لكانت أهداف الألفية الإنمائية التي تتبناها الأمم المتحدة: من استئصال للفقر المدقع، ومكافحة للجوع، وتوفير التعليم الأساسي لكافة أمم وشعوب العالم، ومكافحة الأمراض المعدية وتحقيق الاستدامة البيئية.. إلى آخره، في مقدمة أولويات المجتمع الدولي. أما أن لا تكون هذه ضمن أولويات المجتمع الدولي، فإن ذلك يعني أن المديرين العازمين على الحفاظ على الأوضاع الراهنة كما هي، هم الذين يمسكون بدفة قيادة سفينتنا، بينما يزداد تطلعنا نحن إلى قادة عازمين على تغيير هذه الأوضاع والثورة عليها.