مر نحو خمسة وثمانين عاماً على صدور أكثر الكتب ذيوعاً في تاريخ العرب المحدثين والمعاصرين على حد سواء. وهو كتاب صغير الحجم، مركز الفكرة، مفعم بالشجاعة، ومثير للجدل، فتح الباب لكتب أخرى نبتت على ضفافه، إما رداً عليه قدحاً، أو مساندته مدحاً، وإما معالجة فكرته الجوهرية، ومقصده الذي لم يخطئه صاحبه. إنه كتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق، الذي لا يدانيه شهرة سوى كتاب "في الشعر الجاهلي" لطه حسين. والفكرة الأساسية للكتاب تقول إن الخلافة ليست أصلا من أصول الإسلام، وإنما هي مسألة دنيوية وسياسية أكثر منها دينية، وأن القرآن الكريم والحديث النبوي لم يوردا ما يبين، من قريب أو بعيد، كيفية تنصيب الخليفة أو تعيينه، وذلك لأن هذا التنظيم "اختراع بشري" أو "اجتهاد" من قبل صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، لجأوا إليه ليحافظوا على تماسك الجماعة المسلمة بعد وفاة النبي. والميزة الكبرى للكتاب ليست فقط إعطاءه مثلا في استجابة الفقه للظرف السياسي، حتى لو أنتج رأياً عليه مطعن أو اجتهد اجتهاداً عليه مأخذ، بل أيضاً معالجته لقضية تتجدد باستمرار في واقع المسلمين، ولا تلوح في الأفق أي بوادر لإمكانية تبددها في المستقبل المنظور، بل إن وطأتها زادت مع صعود نفوذ الجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الإسلامي، أو التي تتخذ من الإسلام كدين أيديولوجية أو إطاراً لفكرها وممارساتها في المجال العام. ويزيد على ذلك أن الكتاب في حينه كان يبدو "ثورة فكرية" أو "خروجاً ظاهراً" على رؤى تقليدية، بغية تأسيس مسار مدني للدولة الشرقية، التي كانت لا تزال خارجة لتوها من فلك الصيغة الإمبراطورية. لكن الميزة الأكبر لهذا الكتاب، في ظني، هي أنه لم يسقط بالتقادم، أو يحلْ إلى تاريخ المعرفة، بل لا يزال حياً بين ظهرانينا، وكأن قد تم تأليفه للحظة الراهنة، أو تلك المتوقع أن نحياها، ولا فكاك منها، وكما أنها تعيش بيننا عياناً بياناً، فإنها قادمة لا ريب فيها. وتبقى هذه الميزة قائمة في فكرة الكتاب ومضمونه، حتى لو كان صاحبه قد انحرف عن دوره، أو قام بدور لا يروق لكثيرين. فربما كان علي عبد الرازق هو "مثقف السياق" الذي يلبي حاجة متغيرة، تفرضها عليه قوة خارجية عنه، أو ينجذب هو إليها ليؤدي لها خدمة تنتظرها، وقد لا تعرف هي ذاتها كيف تدبرها. وربما كان هو "المثقف الأزلي" أو "المثقف الحقيقي" الذي يلبي نداء داخله، يدفعه إلى أن يقول كلاماً محدداً، ويسير في طريق معين، بغية نصرة الحق، وإزهاق الباطل، من دون مساومة ولا تردد. لكن بغض النظر عن الفروق الجوهرية بين هذين النمطين من المثقفين، فإن عبد الرازق كان على الأقل يلعب دور "المثقف الناقد" الذي يخرج على المألوف، ويقلب السائد على وجوهه المتعددة، وليس "المثقف الاحترافي" أو "الاختصاصي" الذي يكتب ما يملى عليه، أو يفصل ويشرح بإسهاب الفكرة المركزية التي تعطى له، من دون أن يختارها، أو يكون له رأي في اختيار غيرها، أو تفصيلها على نحو يخالف ما قصده أصحابها. كما أنه لم يكن الكاتب الذي يرضى بمجرد نقل المعرفة، أو الفقيه الذي يستسلم لما أورده سلفه من اجتهادات، ولا يتعداها. والحديث الذي أدلى به عبد الرازق لجريدة "البورس إيجيبسين" ونشرته جريدة "السياسة" مترجماً في عددها الصادر في الرابع عشر من أغسطس سنة 1925، يثبت كيف كان في بداية المعركة مقتنعاً بما كتب، غير مبال بالعاقبة، وكأنه يدرك أن هذا قدر "المثقف المختلف". فحين سأله مندوب الجريدة: هل يخرجك حكم علماء الأزهر من الإسلام؟ أجاب في غضب: "كلا على الإطلاق. الحكم أخرجني من هيئة علماء الأزهر، وهي هيئة علمية أكثر منها دينية، ولم ينشئها الدين الإسلامي ولكن أنشأها مشرع مدني لم تكن له أية صفة دينية ولأغراض إدارية. وبناء عليه فإنني لن أكون في حسن الإيمان والإخلاص للإسلام أقل من أولئك العلماء الذين قضوا بإخراجي". وعلى رغم أن علي عبد الرازق قد ألف ثلاثة كتب أخرى هي: "أمالي علي عبد الرازق" و"الإجماع في الشريعة الإسلامية" و"من آثار مصطفى عبد الرازق" فإنه لم يعرف إلا بكتابه الرابع هذا، الذي رام منه فصل الدين عن السلطة فصلا ظاهراً لا لبس فيه ولا مماحكة أو مداورة. ولم يشأ أبداً أن يقف في منتصف المسافات، أو يميل إلى أنصاف الحلول في قضية شائكة، طالما سببت لكل من أبدى فيها رأياً يخالف التصور الموروث أذى تراوح بين التجهيل والتفسيق وصولا إلى التكفير، أو على الأقل المحاكمة والطرد من "هيئة كبار علماء الأزهر"، كما جرى لعبد الرازق، الذي عمل بالمحاماة، ثم انتخب عضواً في مجلس النواب، ثم عضواً في مجلس الشيوخ، ثم اختير وزيراً للأوقاف، وحاضر لطلبة الدكتوراه في جامعة القاهرة عشرين عاماً في مصادر الفقه الإسلامي. ولكن أي سياق كان عبد الرازق مثقفه، أو أي ظروف أنتجت هذا الكتاب المثير للجدل؟ والإجابة التي ترد على أغلب الألسن، إن لم تكن جميعها، أن الكتاب ابن المعركة الفكرية التي دارت رحاها في مصر عقب إلغاء مصطفى كمال أتاتورك لـ"الخلافة الإسلامية" سنة 1924. فالأزهر حمل بشدة على أتاتورك، ودعا إلى عقد مؤتمر لبحث هذه المسألة، وتعالت أصوات تنادي بأن يكون "الملك فؤاد" خليفة للمسلمين. وفي المقابل كان هناك تيار سياسي يهاجم الخلافة، ويتمنى ألا تعود أبداً، يقف على رأسه "حزب الأحرار الدستوريين"، الذي كان أفراد من أسرة عبد الرازق يقفون في طليعته، ولذا أهدى المؤلف نسخة من كتابه إلى صديقه الدكتور محمد حسين هيكل رئيس تحرير جريدة "السياسة" لسان حال هذا الحزب، والتي لعبت دوراً كبيراً في الترويج للكتاب، وفي الدفاع عن مضمونه، وعن مؤلفه. لكن هناك من يشكك في هذا السياق المألوف، ويحيل فترة تأليف الكتاب إلى أيام الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) وفي مطلع هؤلاء الدكتور محمد ضياء الدين الريس، الذي كرس جل جهده الوافر لترسيخ أركان "النظرية السياسية للإسلام". ففي كتابه "الإسلام والخلافة في العصر الحديث: نقد كتاب الإسلام وأصول الحكم" ذهب الريس إلى أن كتاب علي عبد الرازق قد تم تأليفه بين سنتي 1915 و1917، كما نص المؤلف نفسه على ذلك في المقدمة، وهي مسألة تدل عليها وتسندها إشارة المتن إلى الخليفة العثماني محمد الخامس، الذي انتهى حكمه في السنة التي انتهت فيها الحرب الأولى. وقد حاول الريس أن يقطع الطريق على مؤلف "الإسلام وأصول الحكم" ويهز الدعامة التي اتخذها مناصروه اللاحقون سنداً لهم، وهي تلك التي تعتبر الكتاب أطروحة شجاعة في وجه الملك فؤاد، الذي لم يكن أهلا لحمل لواء الخلافة بعد سقوطها. فالريس يرى أن فؤاد لم يظهر أي رغبة في الخلافة، بل إنه كتب ذات مرة إلى سعد زغلول يقول: "كيف أقوم بالواجب نحو جميع المسلمين، مع أن حملي ثقيل بالنسبة لمصر وحدها؟"، كما أن الملك كان قريباً من "الأحرار الدستوريين" الذين باركوا ما فعله أتاتورك. وأكثر من ذلك يستشهد الريس بما كتبه عبد الرازق نفسه مادحاً فؤاد، ونافياً أن يكون قد قصده بأي سوء، فها هو ينشر في جريدة السياسة: "ملك مصر أعز الله دولته هو أول ملك عرفه الإسلام في مصر ملكاً دستوريّاً ينصر العلم والعلماء ويؤيد في بلده مبادئ الحرية". وتتوالى فصول المعركة، ويتسع نطاقها، بعد أن دخل فيها المختلفون فكرياً وسياسياً، ويصل الأمر إلى حد التشكيك في أن يكون عبد الرازق هو المؤلف الحقيقي للكتاب. وهذا ما سنتناوله في المقال المقبل إن شاء الله تعالى.